خواطر بقلم: طارق حنفي – مفكر وأديب مصري
———–
لقد أجمع العلماء على أن أول ما نزل من القرآن أول خمس آيات من سورة العلق، وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث (يتعبد) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)]…. (الحديث)..
حتى أتى السيدة خديجة فأخبرها بما جرى،
وقال لها: (لقد خشيت على نفسي)..
وغطني: أي ضمني إلى صدره في قوة.
والأسئلة هنا كثيرة ومنها: كيف يقول سيدنا جبريل – عليه السلام – لسيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – اقرأ ولم يكن معه مصدر – كصحيفة أو شيء ما – ليقرأ منه؟
وما نوع خطاب سيدنا جبريل – عليه السلام – لسيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – في الآيات (اقرأ) هل هو أمر، هل هو طلب، أماذا؟
ولماذا كان سيدنا جبرل – عليه السلام – يضمه – عليه الصلاة والسلام – إلى صدره بهذه القوة حتى يبلغ الجهد منه مبلغه؟
قال السعدي: هذه السورة أول السور القرآنية نزولا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، فجاءه جبريل – عليه السلام – بالرسالة، وأمره أن يقرأ، فامتنع، وقال: (ما أنا بقارئ) فلم يزل به حتى قرأ، فأنزل الله عليه: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) عموم الخلق، ثم خص الإنسان، وذكر ابتداء خلقه (مِنْ عَلَقٍ) فالذي خلق الإنسان واعتنى بتدبيره، لا بد من أن يدبره بالأمر والنهي، وذلك بإرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتب عليهم، ولهذا ذكر بعد الأمر بالقراءة، خلقه للإنسان. ثم قال: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ) أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم والإحسان، واسع الجود، الذي من كرمه أن علم بالعلم..
و(عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم..
فعلمه القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون رسلا للناس تنوب مناب خطابهم، فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور، ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق..
ويزيد الشعراوي: أي استفتح يا محمد القراءة بذكر اسم الله..
والقراءة تكون إما من شيء يحفظه فيتلوه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه.
لقد أرسلت
وهنا والله أعلم نقول:
إن سيدنا محمدًا -صل الله عليه وسلم- لم يكن معه أو أمامه شيء مكتوب يقرأ منه، والدليل رده -عليه السلام- (ما أنا بقارئ)، إذا فالمراد هنا هو أن يقرأ سيدنا محمد -صل الله عليه وسلم- من شيء يحفظه! لكنه -صل الله عليه وسلم- لم يكن يحفظ شيء أيضا ليتلوه عليه.. ثم كررها معه ثانية وثالثة، في كل مرة يضمه إلى صدره في قوة ثم يفلته..
حتى ليبدو وكأنه ميقات تلاوة سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- ليس من صحيفة ولا من عقله بل من فطرته وقلبه! والضمة القوية من جبريل لكسر حاجز الخلقة البشرية الذي يغطي على نور الحبيب وفطرته، الإذن ليبدأ التلاوة مما هو موجود بالفعل في فطرته.
كما نجد في سورة الرحمن ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾، وفي تفسير السعدي (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) أي: التبيين عما في ضميره، وقال ابن كيسان (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) يعني: سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم -..
وكأن تعليم الحبيب محمد -صل الله عليه وسلم- القرآن جاء على مرحلتين، الإولى: عندما خلق الله سبحانه نور الحبيب، وحينها وضع الرحمن في فطرته العلم بمفهوم ومعاني ومطلق القرآن الذي هو كلام الله، ثم كانت المرحلة الثانية: التي أتت بعد إعطاء سيدنا محمد الخلقة والصورة الإنسانية، مرحلة البيان (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) وميقات بدئها مجيء جبريل -عليه السلام- إليه وهو يتعبد في غار حراء، ونطق بالكلمة بعد الضمة، وكانت بمثابة إذن من الله ليبدأ سيدنا محمد مهمة التبيين فقال له (اقرأ): أى آن الأوان لتبين للناس جميعًا.
لكن لماذا وُضِع علم القرآن في فطرة سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام -؟..
وهنا تظهر أهمية الإجابة على هذا السؤال للرد على من قالوا: “إن القرآن مخلوق وليس كلام الله”، وعلى من قالوا: “إن القرآن كلام الله، لكنه نزل على سيدنا محمد – صل الله عليه وسلم – بمعناه، وأن سيدنا محمد – صل الله عليه وسلم – هو من جاء بألفاظه من عنده”، سواء من هؤلاء قال: “وكأنه توجد شفرة بين المرسل وهو الله – سبحانه – وبين المستقبل وهو سيدنا محمد – صل الله عليه وسلم – بواسطة سيدنا جبريل – عليه السلام -، فيعكف مع سيدنا جبريل – عليه السلام – عل فك تلك الشفرة، ثم يتلفظ سيدنا محمد – صل الله عليه وسلم – بالقرآن من مخزونه اللغوي، وبما يناسب عصره، أو لأي أحد قال كلاما مشابهًا! إلى هؤلاء جميعًا نقول: “إن القرآن الكريم هو كلام الله قولًا واحدًا”..
ونقول: إن سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – أشرف خلق الله، أتمهم نورًا وأكملهم علمًا وخلقًا، رؤوف رحيم، رباه الله وعلمه، طهر قلبه وروحه، هو خاتم المرسلين وحامل اللواء..
فمن كانت هذه خصاله كان قلبه الأتم والأصح والأصلح بين الخلق أجمعين، قلبه المعيار والمقياس، الذي يقيس عليه الله درجة ظهور كلامه في عالم الشهادة؛ لكي يظهر كلام الله في الدنيا بأقصى درجة يتحملها قلب بشري، ولا يزيد عنها، فيبقى معجز للبشر، وفي نفس الوقت يبقى قابلًا أن يفقهوا بعضه بدرجات وأحوال، ويخرج إليهم كلام الله بلسان عربي مبين، وهو معنى ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)﴾ فكان سيدنا محمد – صل الله عليه وسلم – محيط به علما، ولباقي الخلق معجز، يستطيع البشر أن يفقهوه بدرجات، يفقهون بعضه وليس جميعه، نعم كان مقياسه قلب بشر لكنه ليس ككل البشر فهو أكمل البشر.
يرسل الله -سبحانه- سيدنا جبريل بالقرآن، فيحمل نوره وحروفه وكلماته في روحه، ليقابل روح سيدنا محمد في عملية تلاق بين عالمي الغيب والشهادة، عملية لا يطيقها بشري سوي أشرف الخلق أجمعين، فتقرأ روح سيدنا محمد ما يحمله سيدنا جبريل من كلام الله، تقرؤه روحه بما وضع الله في فطرته من علم القرآن، ويفقهه قلبه..
ولكي يعيه عقله كان لا بد من أن يمر عبر قلبه ويخرج بلسان عربي مبين، يخرج في صورة حروف وكلمات هي من جنس حروف وكلام البشر لكنه كلام معجز لكل البشر، يمرر فيها سيدنا جبريل الأمين – عليه السلام – كلام الله على قلب أشرف الخلق أجمعين سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – ليظهر كلام الله في في عالم الشهادة باقصي درجة إعجاز يطيقها البشر ولا يزيد عنها، وإلا لو زاد لكان القرآن استخدم في تسيير الجبال وإنزال المطر، بل والسيطرة على الأسباب جميعا! وكيف لا وهو كلام الله سبحانه وتعالى..
ثم عندما يفيق سيدنا محمد – صل الله عليه وسلم – يجد نفسه يعي كلام الله..
هي عملية ليس لسيدنا جبريل – عليه السلام – يد فيها إلا قوته وأمانته، وليس لسيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام – يد فيها إلا تمام فطرته وسلامة قلبه، بل هي عملية كلها في يد الله – سبحانه وتعالى -.
وصل اللهم وسلم وبارك على كامل الأنوار، صاحب القلب الأسلم والفطرة الأصح، محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
Discussion about this post