الشعراء شموع الأدب.والشمعة رمز التضحية فهي تحترق من أجل إنارة طريق الآخرين والشبه بين الاثنين واضح لايحتاج تفسير” ” إذا الشّعر ُ لا يُولد ُ آنيا ً كأوراق الشّجر،فمن الأفضل أن لا يولد أبدا.. (جون كيتس) تنطلق اللغة الشعرية في هذه القصيدة للتعبير عما يُفتعل في النفس من انفعالات فنجد الذات الشاعرة تُملي على نفسها بعضا من مجازات دلالية متخطية اللغة المعجمية رغم مباشرة الحوار.
وتظل لغة السهل الممتنع هي اللغة المهيمنة على النص الموسوم بـ”عابرون” ولأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة،فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص. ما أريد أن أقول؟ لتكون القراءة شاملة وكاملة لابد من استعراض أعمدة ومقاطع القصيدة .
كما دونتها الشاعرة: عابرون وأيام السفر القصير لاشيء جديد قد تتغير تصفيفة النوايا تلك الحروف المحلِّقة حول ثغر فنجاني هاهي تتوسد أشرعة صخب السكون واحة صبر هي ورائحة إنتظار إنتصار على إنتظار ماؤها بين كف السطور يعرج بين طياتها أوجاع تتبعها آمال العبور كل الارقام والصور تمتد مدّ اليقين تشهد تلون أنفاسها وهي تراود فكرة ثم اقوال فافعال جاست بها المعاني تصدأ كل المعادن تحت الطين الا الثمين الثمين كيف يتدثر رمل مسجى تحت لهيب شمس حارقة..؟
كيف تتدفأ النوارس المهاجرة في عمق البحار في ليلة مثلجة… ؟ الجمر صار مناسبا والوشم ذاكرة لسع الطين الرقيق وخيط العبور إجابة بيضاء تمزق الطين أو تنحته حكاية للعابرين اعتمدت الشاعرة-مسعودة القاسمي-أسلوب بسيط ومتميز.والشعر ليس في تعقيد اللغة.بل أجمل وأفضل الالوان الشعرية تلك المكتوبة بلغة يفهمها الجميع. ورغم ان الشعر لايستعمل اللغة المباشرة فتأمل الكلمات ولألفاظ الواردة في القصيدة تظهر الرمزية واضحة بين مقاطعها ومعبرة بشكل أفصح عن مواقف ظاهرة. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الشاعر فنان يرسم لوحة تشكيلية بالكلمات لن يتذوق جمالها إلا عاشق الجمال.
والناقد مرآة من زجاج مجهري يظهر ذلك الجمال لضعاف البصر في شاشة الشعر. والقصيدة كهف من الكنوز،والنقد الادبي مفتاح ابوابه.وبواسطته يمكن للقارئ الولوج إلى مخازن القصيدة والاغتراف من معادنها النفيسة. على سبيل الخاتمة : القصيدة-في تقديري-هي عبارة عن حلم عميق لا شعوري،يجب قراءة هذا الحلم بما يتناسب مع كمية الجمال المنبعث من داخله،وتقديمه بصورة تكشف للمتلقي جميع مغاليقه،وتشير الى مواطن الجمال فيه،والإمساك بيد المتلقي وأخذه الى ضفاف هذا الحلم.
لذا على الناقد ان يقوم بتفكيك وإعادة تركيب وقراءة الأفكار فيه حتى يصل الى معرفة الغايات التي جعلت من الشاعر يصرّح بمكنونات ذاته،والغوص في اعماق هذه الذات. وإذن؟ تناوبت إذا في هذه القصيدة السردية التعبيرية للشاعرة التونسية مسعودة القاسمي لغة التجريد واللغة التعبيرية والسرد المشحون بالزخم الشعوري،وبلغة قاموسية بألفاظ تعكس ما في روح الشاعرة وما في روح القصيدة،فخلقت لنا بذلك صوراً حيّة برّاقة وببوح عميق.
على سبيل الخاتمة : هنا حيث تتسع العبارة في أعلى معانيها بأتساع الرؤيا كتأويل وكنسق أبداعي،وهذا يجعلنا نتساءل هل القصيدة هي ذات الفكرة على وجه اليقين أم هي تناص لها،أم هي افتراضات لا متناهية في امتداداتها متجاوزة الفكرة ذاتها،الشاعرة وحدها التي ستجيبنا عن هذا التساؤل وستجد متعة كبيرة،وهي تحاول أن تشعرنا بنقاء روحها عبر تجلياتها،فالشعر كما يقول أودن هو مستودع لضمير الفرد،و الشاعرة-صباح- تجعلنا في أوج لحظتها الإبداعية نستوعب أفكارها و هي تتدفق بجمل قصيرة تفيض عن أصلها،تكفينا لمعرفة حركة الزمن داخل القصيدة ومونولوجها الداخلي فهي تحيي صيرورتها من خلال ما ابتكرته مخيلتها الصورية.
و هي لا تسأل بل تحاول أن تتوقع الإجابة لذا تحول الزمن الى فكرة تشبه كلماتها تماما.. من هنا،نجد القصيدة لديها في مبتدئها انتشاء في بعدها الميتافيزيقي الذي يحاكي صفاءها في اصطفاء اللحظة سواء بصوفيتها أو سرياليتها ساعة الكتابة،و الكلمات بطاقتها الإيحائية هي استعادة لتلك اللحظة لإنجاز المعنى..يقول الشاعر جون كيتس ( إذا الشّعر ُ لا يُولد ُ آنيا ً كأوراق الشّجر،فمن الأفضل أن لا يولد أبدا ً).
إن ما يعمّق التجربة الشعرية هو المزج بين الكتابة الإبداعية شعراً وروايةً من جهة والتأمل الشعري من جهة أخرى “الشعر هو سجل لأروع الدقائق وأسعدها في أسعد العقول وأروعها ” (شيللي)وما أجمل هذا التعبير إذا كانت الرمزية تغلب عليه فتتحول الحالته النفسية الى صور شعرية يسقط فيها نفسه خلف رموز الطبيعة والوجود ذاته .
وأخيرا أتمنى مزيدًا من العطاء والإبداع والتألق المتواصل للشاعرة التونسية مسعودة القاسمي ولها مني باقة من التحايا..مفعَمَة بعطر الإبداع..
بقلم د. آمال بوحرب… تونس
Discussion about this post