خواطر حول الآية الكريمة بقلم: طارق حنفي – مفكر وأديب مصري
———–
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
إن القلب مصب الطاعات ومنبع الإيمان واليقين، وصلاح القلوب وسلامتها تورث تعظيم الله وخشيته التي تورث الرضا والحمد الذي يورث لين القلب ورقّته..
والقلب -أيضا- مصب الفجور والعصيان ومنبع النكران، ومرض القلوب يورث عدم توقير الله وتعظيمه حق عظمته التي تورث عدم شكره وجحود نعمته التي تورث غلظة القلب وقسوته..
وكل صفة مخلوقة لهدف ومطلوبة لمهمة، فعلى سبيل المثال الجبل الذي يتكون من اندماج الأحجار، قسوته مطلوبة؛ فمهمته أن يكون وتد للأرض صلبًا وثابتا، وعلى العكس فإن القلوب ليس مطلوب منها القسوة ولا يوجد لها مهام، بل مطلوب من اللين والرحمة..
الله -سبحانه- يخبرنا في الآيات أن قلوب بني إسرائيل قست كالحجارة والجبال بل وأشد قسوة منهما..
لكن، كيف للقلوب أن تصبح قاسية كالحجارة, وماذا يحدث إذا صارت أشد منها قسوة؟
قالوا في تفسير الآية الكريمة:
القسوة: اليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة، والإذعان لآيات الله، مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة..
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم) أي: اشتدت وغلظت، فلم تؤثر فيها الموعظة..
(مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ) أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم، لأن ما شاهدتم يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها (كَالْحِجَارَة)..
وقوله: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أي: إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار..
وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم، في اتصال الآيات عندهم، وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون عن طاعته، ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه..
والحجارة يصيبها اللين والرحمة فيخرج منها الماء، ولكن قلوبكم إذا قست لا يصيبها لين ولا رحمة فلا تلين أبدا ولا تخشع أبدا..
والله -سبحانه وتعالى- نزل عليكم التوراة وأعطاكم من فضله ورحمته وستره ومغفرته الكثير..
كان المفروض أن تلين قلوبكم لذكر الله، وعندما تتفجر الحجارة يخرج منها الماء فنذهب إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا..
ولكن عندما تتفجر منها الأنهار فالماء هو الذي يأتي إلينا ونحن في أماكننا.. وهبوط الحجر من خشية الله فذلك حدث عندما تجلى الله للجبل فجعله دكا.
والله أعلم نقول:
القلب قد يقسو بالجهل وكثرة الأماني مع الكبر، فقد يرى شخص ما أنه أفضل من غيره وأنه المستحق للعطاء والنعم دون سواه، ثم يتحكم فيه الهوى؛ فيريد أن يأخذ من الله ما يراه مناسبًا له، ولا يري صور عطاءات الله الكثيرة له، ولا نعمه، فلا يحمد أو يشكر ما دام لم يأخذ ما يريد..
والقاسية قلوبهم قد لا يعصون الله كثيرا ولكنهم لا يطيعونه!..
وبنو إسرائيل مثال على صلابة القلوب وقسوتها، ومن رحمته وحكمته وعلمه سبحانه عاملهم بالطريقة الأنسب لهم؛ فميزهم وأعطاهم من العلم الكثير لعل قلوبهم تنفتح له فتنفذ إليها المعرفة ويرسخ فيها الحكمة والتواضع، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة لعلهم يشكرون الله ويحمدون، وأرسل إليهم الأنبياء يرونهم من معجزات الله، ويذكرونهم مرارًا وتكرارًا لعلهم يفهمون ويطمئنون.
إن القلوب القاسية علاجها التعليم والتذكير بنعم الله وآياته، وحين ينفذ العلم إلى القلب القاسي ويمتلئ به يتشقق فيخرج منه عين أو ينفجر منه ويجري كالنهر، فتختفي قسوته تحت الخير الذي يغمره..
وحين يمتلئ هذا القلب بمعرفة الله وعظمته ويقر له بنعمه ويحمده، ومع كثرة الذكر يرق ويخاف الوعيد ويخضع للترهيب والخوف من عذاب الله، فيهبط من كبريائه إلى عبودية الله هبوطا لا يقوى على القيام بعده أبدا ويكون ياقوتة في ذاته، كالحجارة التي تهبط إلى باطن الأرض ومع النار التي تكلسها والوقت
تصبح حجرا كريما..
ولكن إذا صار القلب أشد من الحجارة قسوة فلن ينفذ إليه علم ولا نور ولن يؤخذ منه رحمة ولا حمد ولا لطف ولا رقة.
وكما أن الماء يعطي الجسد الحياة فإن العلم يعطيها القلب والروح، وهناك قلوب فاضت بالعلم حتى انفجر منها كالنهر الذي يجري ويروي الآخرين، أو يخرج منه كعين يشرب منها من يجيئها ظمآن، وقلب تكسر وتكلس وخاف وذكر ورجى
الله حتى أصبح في ذاته كالياقوتة من خشية الله.
وصل اللهم وسلم وبارك على منبع العلم والرحمة الذى فاض خيره على العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلم طارق حنفي
Discussion about this post