بقلم: طارق حنفي – مفكر وأديب مصري
———–
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِه): هو الله الغالب لما سواه، وهو – سبحانه – الفعَّال لما يشاء.
وردت الآية الكريمة في سورة يوسف، وقصة سيدنا يوسف -عليه السلام- هي أحسن القصص الذي أوحى الله به إلى حبيبه محمد -صلى الله عليهوسلم-..
هي قصة اصطفاء واجتباء وتعليم وتمكين، قصة صبر وإحسان وتوبة وجزاء خير من الله..
قصة كاملة المحتوى مليئة بالمشاهد والحكم والعظات، لها بداية ولها نهاية، بدايتها رؤية ونهايتها تأويل الرؤية في مشهد حقيقي يجسد معناها للعيان، وكيف لا؟! والله غالب على أمره، وهو -سبحانه- فعِّال لما يشاء، بعلمه وحكمته ولطفه وعدله يشاء ويفعل ما يشاء حين يشاء حيث يشاء وكيف يشاء.
تبدأ القصة برؤية سيدنا يوسف -عليه السلام- التي رواها لأبيه يعقوب -عليهما السلام- {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف-٤)، ثم مشاهد كيد إخوته له وإلقائه في قاع البئر، والتقاط بعض المسافرين له ثم بيعه لرجل من مصر، ومرحلة تعليم سيدنا يوسف عليه السلام علم تأويل الأحاديث (ومنها تفسير الأحلام)، ومحاولة إغوائه عن طريق امرأة العزيز الذين ربياه في بيتهما، ثم ابتلائه وسجنه، ثم تمكينه في الأرض وتنصيبه على خزائن مصر (ولما لا وهو حفيظ عليم)، ولقائه بإخوته وأمه وأبيه، ونزوحهم جميعا إليه في مصر، وسجود أبيه وأمه وإخوته له سجود تحية وإكرام بعد أن رفع أبويه على العرش بقربه..
الأب والأم وأحد عشر أخًا، كلهم سجدوا له، وكان هذا تأويل رؤياه قد جعله الله حقا، وليس مجرد تأويل {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف-١٠٠،٩٩)، ولما لا؟! وهو سبحانه غالب على أمره.
والسؤال الذي لم ينتبه الكثير إليه، كيف أصبح إخوة يوسف كالكواكب {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} بعد الذنب الذي اقترفوه؟!
سيدنا يعقوب -عليه السلام-:
قص سيدنا يوسف -عليه السلام- على أبيه رؤياه، فأجابه الأب: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (يوسف-٦،٥)..
وهنا أقول والله أعلم: إن سيدنا يعقوب -عليه السلام- نفسه أوتي علم التأويل ولو بطريقة مختلفة (وإلا كيف أخبر سيدنا يوسف بهذا كله بعد أن قص عليه الرؤيا؟!).. وبطريقة ما علم بعض ما سوف يحدث كأنه يرى مشاهد متقطعة منها، رأى ويا لقسوة ما يرى الأب! عندما يرى أبنائه يكيدون لأخيهم، ورأى ما جعله يوقن بأن الله سيجتبى سيدنا يوسف -عليه السلام- ويعلمه تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليه، ويتم نعمته على آل يعقوب جميعًا عن طريقه (أبنائه جميعًا وأهلهم)..
ولكن كيف يحدث ذلك وقد علم أن عشرة من أبنائه سيكيدون لأخيهم؟! وهو ما جعله يحزن ويخاف على يوسف ويحاول منع كيدهم له، ولكن الله غالب على أمره {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} (يوسف-١٤،١٣،١٢،١١)..
الأب يملؤه القلق والخوف على أبنائه جميعًا من أن تكون أفعالهم ومعاصيهم سببًا فى ألا يتم الله نعمته عليهم (وليس على يوسف وحده) فى أن يكون هو وأبناؤه سبب فى فقدان نعمة الله التى أنعمها على سيدنا إبراهيم وسيدنا إسحاق (عليهم جميعًا السلام) من قبله، ولكن خوفه وقلقه جعله يحيط ويهتم بيوسف -عليه السلام- أكثر من الباقين، لكنَّ خوفه على يوسف -عليه السلام- لم يغن من الله شيئا..
حتى أنه لم يستطع منع كيد إخوته له، وفعلوا بيوسف -عليه السلام- ما فعلوه، وكان صبره صبرًا جميلًا، صبر العالم بحكمة الله، الراغب في رضاه، مع ما يعتصر قلبه من القلق والحزن {وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (يوسف-١٨).
إخوة يوسف عليه السلام:
الجريمة الأزليه نفسها، الشعور بالغيرة والحسد الذي يقود صاحبه إلى عصيان أمر الله وارتكاب الذنوب والمعاصى، ولهم في قصة إبليس وآدم -عليه السلام-، وقصة قابيل وهابيل العظة، لكنهم كانوا أرحم على أخيهم من قابيل بأخيه؛ فهم لم يقتلوا يوسف وإن راودتهم الفكرة، لكنهم ألقوه في قاع البئر، ألقَوه في القاع فجعله الله على قمة الملك، أرادوه عبدًا فجعله الله ملكًا، أرادوا بفعلتهم أن يخلوا لهم وجه أبيهم وأن ينسى يوسف ويوليهم جلَّ اهتمامه، لكنه لم ينسه ولو للحظة حتى أصبح شيخ كبير لا يراهم أمامه، ولما لا والله غالب على أمره؟!
ثم اتفقوا على التوبة بعدها، وأن يكونوا قومًا صالحين {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} (يوسف-٩)، لكنهم لم يعلموا أن الذنوب والمعاصي تترك من الآثار على القلب والنفس الكثير، فهى تظلمهما وتعرش عليهما بالحجب والأغشية، وأن التوبة بعد الذنب ليس مجرد قول، لكنه شعور لا بد من أن يكون قويًا بحيث ينير الظلمة ويهدم العُرُش ويمزق الحجب والأغشية، وأن التوبة في أصلها توفيق ورحمة من الله، وأن الله هو الذي يأذن لعباده بالتوبة ليتوبوا، فهو سبحانه غالب على أمره.
سيدنا يوسف -عليه السلام-:
هو الصِدِّيق الذي اصطفاه ربه وعلمه من تأويل الأحاديث، الحفيظ العليم الذي مكَّن له الله في الأرض وجعله على خزائنها، النبي الذي جعل الله من سيرته مثالا لليسر بعد العسر، مثالا للتمكين والعز بعد السجن الذل، مثالا للصبر على الصبر الذي يُبَلِّغ اليسر، فكان صبره إحسان (تقوى وصبر)، صبر ورضا وثبات وعمل خير، صبر بلا حزن ولا قلق ولا معصية {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف-١٠)..
كاد سيدنا يوسف -عليه السلام- لإخوته -بإذن الله-، وشتان بين كيده لهم وكيدهم له، شتان بين الحاسد والمحسن، بين الكاذب والصِدِّيق..
إن كيده لإخوته -بإذن الله- أعطى فرصة لأبيه أن يتصرف بالعدل معهم جميعًا، بعد أن أسره حبه ليوسف والقلق عليه من قبل، والله غالب على أمره..
يفعل -سبحانه- ما يشاء بعلمه وحكمته ولطفه، جعلهم يقولون (ونحفظ أخانا)، بعد أن قالوا (ليوسف وأخيه) من قبل {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا} (يوسف-٦٥)..
كما ناداهم يعقوب عليه السلام ب (بنى) ونقل إليهم شعوره بالخوف عليهم جميعًا من الحسد بعد أن كان خوفه وحزنه مُنصبًّا على يوسف -عليه السلام- وحده {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}..
لم يشعر إخوة يوسف -عليه السلام- بقلق أبيهم وحبه لهم من قبل؛ فقلقه على ابنه المجتبى من الله غلب شعوره كأب، ذلك بأن يوسف -عليه السلام- سيكون امتداد وسبب في أن يتم الله نعمته على آل يعقوب جميعا..
لكنه أراد أن يوصل لنفوس بنيه هذه المرة أنه يحبهم ويقلق عليهم جميعًا {إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} (يوسف-٦٧)؛ فكانت النتيجة أنهم بعدما تمنوا موت يوسف -عليه السلام- من قبل أو ذهابه بلا عودة ليفوزوا بقلب ووجه أبيهم، طلبوا من العزيز أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم (أخو يوسف)، أرادوا أن يفدوه بأنفسهم، لقد بدأت الشفقة تدخل قلوبهم {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف-٧٨)..
وهنا بدأت أولى خطوات التوبة: “الشعور بالندم” {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يوسف-٨٠)..
تلتها مرحلة: “كسر كبر النفس العاصية” {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} (يوسف-٨٨)..
ثم مرحلة: “الاعتراف بالخطيئة والذنب” {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (يوسف-٩١)..
وأخيرًا: “الصدق في طلب المغفرة” {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ (يوسف-٩٨،٩٧)..
وجاءت المغفرة {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ} (يوسف-٩٢).
وفي الختام، والله أعلم نقول:
إن أكثرهم سعادة في مشهد لم الشمل الأخير سيدنا يعقوب -عليه السلام- نفسه؛ فقد أتم الله نعمته على آله جميعًا بعد أن نزغ الشيطان بين أبنائه {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة-١٣٣)؛ فقد أدى رسالته على أكمل وجه بعد الكثير من الأخطاء، ولولا مشيئة الله لهم -جميعًا- بالرحمة ما تمَّت ولا رُحِموا، لكنه سبحانه (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)..
يليه سيدنا يوسف -عليه السلام- الذي رأى لطف الله وحكمته ملازمة له ظاهرة، يراها ويفهمها ويشعر بها {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف-١٠١).
ونقول:
إن صبر سيدنا يعقوب -عليه السلام- صبر جميل، فيه الرضا ولكن فيه الحزن والقلق، أما صبر سيدنا يوسف -عليه السلام- فصبر إحسان (تقوى وصبر)، كان صبر على الصبر، كان رضا بالصبر دون شغف أو لهفة أو حزن ولكن ثبات وعمل، مع تأدية رسالته دون يأس أو نقص..
يوسف -عليه السلام- مع الابتلاء آتاه الله حُكمًا وعلما، وتعلم تأويل الأحاديث، دعا صاحبيه في السجن إلى عبادة الله الواحد الأحد، بدأ يعطي من علمه بمجرد أن أتقنه، كان حفيظا أمينا في تأدية عمله على الخزائن، أحسن لإخوته، وكاد لهم بإذن الله كيد جعلهم يتوبون ويعودون إلى الله جميعا، فهو محسن صِدِّيق.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد الحبيب المصطفى الأمين، الرحمة المهداه للعالمين، النور الهادي إلى الصراط المستقيم وعلى آله وصحب هأجمعين.
Discussion about this post