بقلم: الباحث بوخالفة كريم _الجزائر
إن هناك تغيرا في موازين القوى على مستوى العالم، هذا يشير إلى قرب تمزق نسيج هذا النظام العالمي وظهور نظام جديد يختلف معه كلية، والجزائر شعبا وحكومة مطالبة بتجديد العقلية والسلوك بشكل تام للتموضع في النظام العالمي القادم.
هناك شعوب يمكننا التعامل معها في سياق من الرهانات والتحديات مع مجال مفتوح إلى حد ما من الخطورة، وهذا أمر طبيعي إذا رأينا للكائن البشري من زاويته الطبيعية، ولكن نفسيا فإن هناك شعبين لا يمكن أن يُؤتمنا بشكل مطلق وبالأخص سياسيا وثقافيا، وهما الفرنسيين والبريطانيين، أقول هذا التحذير انطلاقا من مؤشرين: الأول هو مؤشر تاريخي يثبت بأن هذين الأمتين هما أكثر الأمم نزوعا نحو تحطيم الآخر وفرض السيطرة السياسية بالإضافة إلى العمل على مستوى الخبث الثقافي، ولنا في استعمار قارة أمريكا ثم إفريقيا ومناطق كبرى من آسيا دليل قوي على ذلك. والمؤشر الثاني هو التغيير الذي يستهدفه الشعب الجزائري من الناحية اللغوية والسياسية، فهنا لابد من الحذر والالتزام بالقاعدة النبوية في المجتمع وهي (لا ضرر ولا ضرار)، أي أن التخلص من التبعية الفرنسية عليها ألا تكون مدخلا لتبعية أخرى بريطانية وأمريكية، لا لغويا ولا ثقافيا ولا سياسيا، وهنا يكون دور الشعب في توعية نفسه وتحصين ذاته عبر أساتذته ومثقفيه وأدبائه وفنانيه دورا محوريا وأساسيا، وهذا ليس دور الوزراء والسياسيين فحسب حتى لا يتم التملص من المسؤولية ككل مرة وجعل العقول في جيب الحكومة كالأجرات الشهرية تماما.
وعلى صعيد آخر، فإن الموازين السياسية والإقتصادية التي نراها تتغير في العالم، نجدها تميل نحو آسيا أكثر فأكثر، وذلك أنه بعدما كانت القوى متمركزة قديما بين الرومان والفرس، أي في نقطة التقاطع الأوروبي- الآسيوي، ثم صارت بعد الإسلام متمركزة على المسلمين بين آسيا وإفريقيا والأندلس جنوب أوروبا، صارت بعد عصر النهضة الأوروبية متمركزة في أوروبا حيث ظهر ما يسمى (بالأورومركزية)، بعد ذلك وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية صارت المركزية مقسمة بين أوروبا وأمريكا إلى حد كبير، أما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فقد صارت الموازين متمركزة على (المركزية الأمريكية)، ولكن اليوم يبدو أنه بعد فقدان أوروبا لمركزيتها المطلقة وتحولها إلى مركزية نسبية، ودخول أمريكا والاتحاد الأوروبي في تجاذبات عدة على مستوى قضايا متعددة ومصالح متضاربة، فإن موازين العالم تتجه من جديد نحو آسيا بقوة كبيرة.
فوجود قوى عسكرية عظمى وكبرى هناك كروسيا والصين والهند وباكستان وتركيا وإيران، وقوى إقتصادية ضخمة كالصين وإندونيسيا وماليزيا واليابان وسنغافورة وروسيا وتركيا، يجعل الميزان يميل لصالح ثقل قارة آسيا، وهنا تتحدد الخيارات الإستراتيجية لقارة إفريقيا، فهذه القارة التي إجمالي دخلها السنوي يقارب 4900 مليار دولار تساوي إجمالي الدخل لدولة واحدة فقط من آسيا كاليابان أو إندونيسيا.. وإذا تكلمنا كجزائريين فهنا سنكون أمام خيارات استراتيجية حتمية تحددها معايير أساسية تتماشى مع نموذجنا الحضاري والسياسي والإقتصادي، وهي:
1- اختيار شركاء آسيويين كُثر لجعل المعاملات مع فرنسا تتم بندية وفق مصالح متبادلة وليس بتبعية وفق مصالح أحادية مما يفتح باب الفرص وحرية الخيارات أكثر.
2- التعامل مع الدول الآسيوية التي تشاركنا نفس العمق الحضاري مما يتيح التوافق الفكري والنفسي والسياسي النسبي، وهنا تكون (تركيا، وماليزيا، وباكستان، وإندونيسيا، وإيران، وسنغافورة) هي الدول الستة الأولى الأكثر قربا لخدمة توجهاتنا الحضارية ومصالحنا.
3- التعامل مع الدول الآسيوية التي تشاركنا نفس الرؤى الإستراتيجية نسبيا والتي لها نفس توجهات تاريخنا السياسي، وهنا تكون (الصين، والهند، وإندونيسيا، وروسيا) هي الأكثر قربا.
4- تحديد الشركاء العسكريين، وهم بالدرجة الأولى (روسيا، والصين، وتركيا).
5- تحديد الشركاء الإقتصاديين، وهم بالدرجة الأولى (الصين، وتركيا، وإندونيسيا، وماليزيا، واليابان).
6- تحديد الشركاء الأوروبيين الذين له تقارب نسبي أو لهم صدام أقل حدة مع الشركاء الآسيويين، وهم بالدرجة الأولى (ألمانيا، وإيطاليا).
7- تحديد الشركاء من أمريكا اللاتينية الذين لهم تقارب مع الشركاء الآسيويين، وهم بالدرجة الأولى (البرازيل، وفنزويلا، وكوبا).
8- تحديد الشركاء الأفارقة الذين لهم تقارب مع الشركاء الآسيويين، وهم بالدرجة الأولى (جنوب إفريقيا، ونجيريا، ورواندا، ومصر).
الخلاصة:
إذن فالجزائر اليوم أمام نظام عالمي متغير يتأهب للتمزق وظهور نظام عالمي جديد مؤشراته ستكون أكثر ظهورا للعيان طيلة هذه الخمس سنوات القادمة بين 2020م 2025م والخيارات الإستراتيجية التي نقوم بها تعتبر مصيرية وترهن مسار دولتنا طيلة العقود القادمة، ولهذا فإن تحديد الشركاء الإستراتيجيين من مختلف قارات العالم ضروري حتى لا نسقط في الفخ المجهّز للفرائس، وهذا لا يعني عدم الاهتمام بالدول والشعوب الأخرى، فهذا محال في العلاقات الدولية، بل تعني إعادة ترتيب علاقاتنا الخارجية وفق ما يتطابق مع مشروعنا المتمثل في تفعيل (العمق الإستراتيجي للدولة الجزائرية) بكل أبعاده العسكرية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية، وهنا لابد أن يعلم الكل بأن أي مشروع يتناقض مع البعد الحضاري للجزائر ويريد فصلها عن محيطها الإقليمي الإفريقي والمتوسطي وامتدادها المتمثل في العالم الإسلامي يُعتبر حقا مشروعا ليس فقط خبيثا ولكنه ساذج إستراتيجيا إن صح القول لأنه يريد البناء من العدم، بينما هذا لا يتحقق إطلاقا لأن الدول تُبنى وتتحرك انطلاقا من عمقها الذاتي وضميرها الشعبي ورؤيتها الكونية والإستراتيجية. وعليه إذن فإن هذا الطرح الذي يختصر بعض الرؤى والرهانات يمكن اعتباره رسما لملامح المستقبل العالمي من جهة، ولمعالم الطريق الواجب اتخاذها من طرف الدولة الجزائرية من جهة أخرى.
Discussion about this post