إن الإطار العام لعصرنا يتميز بجملة من الخصائص (السياسية والاقتصادية والحضارية) تضعنا أمام حاضر مفصلي في التاريخ -فسياسيا انقسم العالم إلى دول مستعمِرة ودول مستعمَرة، واقتصاديا انقسم إلى دول شمال وجنوب، وحضاريا انقسم إلى حضارة غربية بمواجهة حضارات وثقافات شرقية- كل ذلك يجعلنا نلاحظ ثلاثة أشياء:
أولا: نلاحظ ضغطا من الماضي يتجلى في الإرث الثقيل الذي يلقيه على حاضرنا. وثانيا: نلاحظ ضبابية تلف مستقبلنا. وثالثا: نلاحظ حاضراً يكاد يتمزق من الجذب الذي يحدثه الماضي بتراكماته والمستقبل بحتميته التي سنذهب إليها.
كل ذلك يفرض علينا طرح إشكالية محورية وهي:
– بأي شكل من الأشكال يمكن رصد مستقبل العلاقات الدولية من خلال تحليل الصدامات التاريخية وراهن النظام الدولي؟
إن الإجابة عن إشكالية مثل هذه تتطلب منا مراعاة البنية المنطقية والزمنية لها، أي أن نجيب على أسئلة تتوزع على ثلاثة أبعاد:
1- بعد الماضي (رؤية خلفية لما قبل نقطة الانعطاف):
– ما هي الأحداث التاريخية التي شكلت ماضي العالم؟
– كيف ساهم التاريخ وأحداثه في تكوين النظريات السياسية؟
– ما هي الخصوصية التاريخية للجزائر؟
إن البحث المعمق -كما هو في أطروحتنا المكتوبة- يجيب بشكل مفصل عن هذه الأسئلة وأكثر، لهذا بإمكاننا اختصار الأمر بالذهاب مباشرة إلى أبرز النتائج والملاحظات التي أفادنا بها تحليل الماضي وهي:
– إن العلاقات الدولية تحكمها غالبا الرؤى الكونية والنزعات الحضارية للقادة والنخب. وما المصالح الاقتصادية سوى وسيلة فقط وليست غاية كما هو شائع.
– إن أنظمة العلاقات الدولية عبر التاريخ لم تشكلها سوى الحروب. والحروب لم تكن ظاهريا سوى بين جيوش ودول وحضارات لكنها باطنيا هي صدام بين الأفكار.
– إن الصراعات الحضارية تعود إلى صراعات فكرية.
– كلما غاب التماسك البنيوي للشعب وشعوره بالوِحدة والاتحاد غاب على المدى الطويل الولاء للدولة. (أي أزمة تماسك سوسيوثقافي).
– بدأ تاريخ العلاقات الدولية بظهور الصدامات الحضارية الأولى وبالأخص في حوض البحر الأبيض المتوسط: (مثل: الحضارة المصرية والبابلية والفارسية واليونانية والرومانية والإسلامية ثم الغربية).
– غاب دور اليهود كأمة وشعب لمدة تفوق 2000 سنة، وقد كان الأسر الفرعوني وبعده الأسر البابلي لليهود في القرن السادس قبل الميلاد بعد معركة (كركميش ما بين المصريين والبابليين) هو نقطة بداية الشتات الطويل لليهود قبل أن يعودوا مجددا كأمة وقومية واحدة في القرن العشرين. مما يعني أن ادعاءات السقوط النهائي للحضارة الإسلامية واستحالة نهضتها لا تدعمها التجربة التاريخية المتمثلة في الأنموذج اليهودي على سبيل المثال.
– إن معدل عمر الدولة الجزائرية منذ القرن الثامن قبل الميلاد إلى سنة 1962م هو: 145 سنة. وقد مرت الجزائر على 19 شكلا جيوبوليتيكيا، وما الجزائر الجزائرية التي أقيمت منذ 1962م سوى الشكل الأخير لمسار تطور الأمة الجزائرية وليست هي بدايتها.
– هناك ثلاثة أسباب لانهيار الدولة الجزائرية في كل عصر: الاختيارات السياسية والتحالفات الخاطئة، والخيانات الداخلية، والاعتداءات الخارجية. أي أن أكثر من 66% من أسباب السقوط هي داخلية.
– الخِلافات الداخلية تُحدث الانهيار بوسيلتين: إما بحروب طبقية اجتماعية (كما كان الحال في اليونان بين الأثينيين والاسبارطيين)، وإما بحركات انفصالية تفكيكية. وهاهي الجزائر ترى حركة انفصالية مبنية على تعصب عنصري وخرافات عرقية.
– إن الأحداث الكبرى للتاريخ كالحروب والصدامات هي التي أنشأت النظريات السياسية وليس العكس. ومنه فلا يمكن لنظرية سياسية أن تنشأ دولة أو حضارة.
– إن النظام الدولي الراهن ليس هو أول نظام بل هو السابع في الخمس مائة سنة الأخيرة وهو يتجهز للتحول إلى النظام الثامن، وعليه فمن الخطأ الشائع السقوط في المغالطة التي تجعله هو الأول والأخير -كما يفعل الليبراليون الديمقراطيون مثلا-.. (النظام الأول منذ نهاية العصور الوسطى كان نظام ما بعد معاهدة تورديسيلاس 1517م، ثم نظام ما بعد هدنة 1608م، ثم نظام معاهدة وستفاليا 1648م، ثم نظام معاهدة أوتريخت 1717م، ثم نظام ما بعد معاهدة فرساي 1919م، ثم نظام الثنائية القطبية ما بعد الحرب العالمية الثانية 1945م، ثم نظام الأحادية القطبية بعد الحرب الباردة بداية من 1991م). بمعدل عمر يساوي: 59 سنة لكل نظام دولي. وهذا يشير لهشاشة العلاقات الدولية.
بناء على ما سبق فإنه لا بد من إعادة النظر في حاضرنا إذن مادام مبنيا على تراكمات الماضي، وهذا يجعلنا نطرح أسئلة تتعلق في صميم البعد الثاني.
2- بعد الحاضر (في نقطة الانعطاف والزمن الحرج):
– ما هي الخصوصية الجيوبوليتيكية للجزائر؟
– كيف يكون الإعداد الاستراتيجي للجزائر؟
– ما هو راهن النظام الدولي؟
بصفة عامة يمكن تقديم إجابات مختصرة عن هذه الأسئلة بالقول:
– إن الخصوصية الجيوبوليتيكية للجزائر تتعلق بأمرين: أولا بنوعية موقعها الجغرافي. وهذا الأخير يضعها أمام حتميتين: حتمية القوة البحرية بحكم أن أغلب التهديدات التاريخية التي ضربت الجزائر كانت قادمة من البحر. وحتمية القوة البرية بحكم شساعة الأرض. وثانيا بنوعية ملفاتها الجيوبوليتيكية المعالَجَة وعلى راسها ملف التوغل الصهيوني في المنطقة ولغم المشروع الانفصالي والأزمة الصحراوية وملف العمق الاستراتيجي نحو إفريقيا.. وغيرها من الملفات.
– إن الإعداد الاستراتيجي للجزائر يقوم على السياسة والإدارة، والتعليم، والاقتصاد والأمن. وبحكم وجود أزمة اقتصادية فإن تاريخ اقتصادنا يفيد بأن هناك ثلاثة فواتير هي الأكثر إثقالا لكاهل الخزينة العمومية وهي: فاتورة القمح ومسحوق الحليب والمواد الصيدلانية. ولهذا فإعادة النظر في هذا الأمر سيعالج عدة مشاكل فيه.
– إن النظام الدولي الحالي يتواجد في حالة متأزمة من عدة جوانب:
اقتصاديا: فهو يعاني من أزمة تراكم رأس المال الذي سيبلغ 3 تريليون دولار بحلول 2030م. وكذا من أزمة الديون العالمية التي وصلت إلى 300 تريليون دولار والتي من أهم أسبابها ارتفاع سعر الفائدة مما يشير مجددا إلى أزمة الربى وضرورة إعادة النظر في الأمر.
أمنيا: يعاني من توترات وحروب.
حضاريا: يعاني من أزمة تواصل بين المركزية الغربية وباقي العالم.
إيديولوجيا: الليبرالية الديمقراطية أصبحت تعاني من هشاشة مفرطة.. وكذا أزمة ذهنية الحرب الباردة.
إنسانيا: يعاني النظام الدولي من انهيار قيمة الإنسان في الأساس.
إن كل ذلك يحتم علينا إعادة النظر في مستقبلنا لطرح ثلاثة أسئلة تتعلق بالبعد الثالث وهو:
3- بعد المستقبل (اقتحام العقبة):
– كيف يمكن استشراف المستقبل؟
– ما هو الشكل العام للعلاقات الدولية؟
– أي رسالة حضارية نحو الإنسانية؟
– إن الاستشراف قد أصبح علما قائما بذاته يخضع لمناهج وتقنيات علمية عديدة من بينها (تقنية السيناريوهات والعصف الذهني والتنبؤ الحدسي وتقنية دلفي والإسقاط ودولاب المستقبل وشجرة الاحتمالات.. الخ).. مما يعني ان استشراف المستقبل يمر على استعمال التقنيات الدقيقة المناسبة.
أما الشكل العام للعلاقات الدولية مستقبلا فسيكون متميزا بالمعطيات الآتية:
– هناك ميلان للثقل العالمي نحو إقليم (شرق آسيا) والذي أصبح هو الأول عسكريا في العالم من حيث التعداد، والثاني ديمغرافيا والثاني اقتصاديا.
– وعودة الاعتبار للتكتلات الإقليمية بمثابتها هي وحدة التحليل الأساسية في النظام العالمي القادم أكثر من الدول منفردة.
– هناك انتقال من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية.
– هناك 17 إقليما ستظهر منه 26 دولة هي الأقطاب الدولية في النظام العالمي الجديد.
– من بين الاقطاب الدولية ستكون لإفريقيا 9 دول وهي: مصر والجزائر ونيجيريا وساحل العاج وتنزانيا وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية وانغولا وجنوب إفريقيا.
– ستحمل الحضارة الإسلامية رسالتها نحو الإنسانية عبر دعوتها لتصحيح الأحوال البشرية الراهنة ونقدها للفلسفات المبررة لهذه الأحوال. وكذا بتغليب المنطق التعاوني على الصدامي.
في الأخير، فإن مجمل ما نقدمه كخاتمة وتوصيات التي نخرج بها في هذا العمل هي خمسة:
– اعتبار أن مستقبل العالم يتحدد على شكل (نظام عالمي جديد لا هو بالأحادي ولا بالثنائي بل متعدد القطبية).
وان تحليل الماضي -وعكس المدرسة الواقعية- هو حجر الأساس في فهم الحاضر واستشراف المستقبل.
– ضرورة إضفاء القراءة الاستراتيجية والجيوبوليتيكية على التاريخ الجزائري لاكتشاف الزوايا المظلمة منه واستخراج القوانين التي تحكمه بعيدا عن القراءات الجامدة.
– لا بد من الاهتمام بمقاربة “توازن القوى الإقليمية” في التحليل السياسي للتوازنات الجيوسياسية الراهنة.
– ضرورة تفعيل الدولة لعمقها الاستراتيجي لكون أن هذا العمق هو ما يجعلها مؤثرة إقليميا في نظام عالمي سيكون مبنيا أساسا على التوازنات الإقليمية.
– إسهام الإسلام والحضارة الإسلامية في نشر ثقافة حوار الحضارات لترتيب أولويات التعاون والصدام في النظام العالمي المستقبلي.
Discussion about this post