الجوائز الخاصة والرسمية بين وهم الشهرة وحقيقة القيمة
بقلم/ أ.د. أيمن تعيلب
أستاذ النقد الأدبي
وعميد كلية الآداب الأسبق بجامعة قناة السويس
رغم أننى أقر هنا بأن هناك أسماء حقيقية قد حصلت على جوائز الدولة غير أننى على يقين بأن عدد من لايستحقون الجوائز يربو على عدد من يستحقون عشرات المرات.وراجع معى قارئى الكريم سجلات من حصلوا على جوائز الدولة ستجد فيها مصداق ماقلت فأنا أتكلم من وحى الواقع لا من وحى الخيال.ويبدو أن آليات تطبيق معايير وشروط الجوائز الأدبية العربية فى بلادنا تساعد على صناعة النجم لا صناعة القيمة،صناعة الوهم،لا صناعة الإبداع،شأن كل شىء فى حياتنا الثقافية الفقيرة المقفرة الجديبة،يشققى النجم فى صناعة نفسه شهور وليال لاقتناص الجائزة وماهى إلا ساعة ويحصل النجم الزائف على الجائزة ثم تنقضى الهموم وتزول الغمة. ويتم توزيع (الشربات الأحمر) مشيعا بزغاريد الإعلام الجاهز سلفا،
والسؤال هنا:هل كانت الجائزة اكتشافا لموهبة أدبية لافتة أم كانت لحظة صعود مدبرة من رئيس اللجنة وأعضائها ما إن تتحقق حتى يتلوها هبوط حاد فى الدورة الدموية الأدبية للمبدع والإبداع؟
ولعلنا فى كشفنا لأقنعة الوهم وكهنوت الزيف فى جوائزنا مايساعدنا على التفرقة النقدية بين قيمة راسخة مستحقة وشهرة واهمة مسترقة،الأولى شهرة استحقاق إبداعى،والثانية شهرة استرقاق واستلحاق أيديولوجى راضخ.الشهرة الإبداعية الوهمية تكون مخططة مدبرة قائمة على التواطؤ القبلى المدبر بين سلاطين الرأسمال الثقافى والجمالى القائمين على بيت المال الجمالى الرسمى يعطون من ما لايستحقون على حساب حق من يستحقون،بينما شهرة القيمة تكون شهرة مستحقة تاريخيا وإبداعيا عن جدارة واستحقاق تاريخى على خلاف الشهرة المدبرة غير المستحقة.
وحتى نعيد ترتيب الأوراق بعد أن تشوشت فاختلط حابلها بنابلها، نريد أن نوغل قليلا فى أنساق سلطة معايير الجوائز الأدبية فى العالم العربى ،لأن هذا النسق الثقافى والشخصى الذى يمارسه جل القائمين على الجوائز هو مايتحقق به وهم الشهرة على حساب حقيقة القيمة الإبداعية،حيث يتأسس تزييف المعايير على آليات مدبرة وتقنيات مخططة تستمد قوتها من وهم خطابات الإعلام وقدرتها على اصطناع أقنعة الوهم وترسيخ نجومية الوهم.التى تؤكد وهمية الوجود لا شرعية الحضور.ولا بأس هنا من أن نحدد الملامح الثقافية والنفسية والشكلية للنجم الوهمى الزائف المرشح للجائزة
فى خصائص الكائن النجم
فى البداية يجب أن يكون النجم على علاقة طيبة جدا بجميع أعضاء الجائزة فلا يظهر لأى منهم نأمة رأى ولا اختلاف ولا قلق بل ابتسام دائم وحياد تام واتصال مستمر بجميع أعضاء لجنة الجائزة ليل نهار،بمناسبة وبغير مناسبةـوعليه أن يكون على وعى عبقرى بجغرافيا الجوائز كلها بداية من مراكزها التى تعلن عنها ومرورا بلجانها المحكمة وتجميع أرقام تليفوناتهم والتقرب الحميم الأملس الدافىء لمن يعرفهم ومن لايعرفهم، ثم يبدأ ببرنامج عرض الخدمات والتنازلات والتضحيات للكبراء الأوصياء ومايتطلبه ذلك من تقديم المكارم،والوعد بالمغانم،وامتلاك مهارات ذكائية ولباقات سلوكية،وتحسبات مستقبلية،وهذا يتطلب من صاحب الجائزة أن يكون واعيا وعيا تاما بظاهرة جديدة فشت فى عالم الجوائز وهى ظاهرة (تأليف المؤلف) لا تأليف الكتب،وتأليف المؤلف غير تأليف الإبداع،وأولى أبجديات تأليف المؤلف
عبقرية تاليف العلاقات والاتصالات وامتلاك مواهب خاصة فى تأليف لباقات وتحسبات وصفقات وسهرات،وبهذا تختلف زمنية تأليف المؤلف عن زمنية تأليف الإبداع التى تحتاج إلى لغة وخيال ومعاناة وكد وصقل ووحدة وغربة وتركيب وتفكيك ولاوقت لكل هذا لدى المؤلف المشغول بتاليف نفسه ولافائدة منه فى زمن تأليف المؤلفين لاتأليف الإبداع.
الكائن النجم غير الكائن المبدع.ولعل كل هذا يجرنى لسؤال مهم: من الذى قلب المعايير فجعل من تأليف المؤلف لا تأليف الإبداع هو المحك الذى تدور عليه حظوة الفوز بالجوائزة ؟ هل شيوخ النقد الكبار الطاعنون فى السن الثقافى والقائمون على بيت المال الرمزى هم الذين أفرغوا الجوائز من قيمتها الرمزية الجليلة لتنقلب من جلال القيمة إلى وهم الشهرة بحيث يكون الحصول عليها ممن يمتلكون قدرات خاصة فى تأليف أنفسهم وتحويلها إلى محض علاقات عامة؟ أم هو منطق المصالح تتصالح؟
كأن يكون مثلا ـــ وهنا أضرب مثلا فقط ــــ رئيس الهيئة العامة للكتاب محكما فى الجائزة،و رئيس هيئة قصور الثقافة متقدما للجائزة،ورئيس المجلس الأعلى للثقافة أمينا للجائزة، ورئيس اتحاد الكتاب عضوا مثلا من أعضاء التحكيم فى الجائزة، وعلى الأغلب سيكون منطق هذا الحشد أن المصالح سوف تتصالح والحرص على ألا يغضب أحدا أحدا!! حسب منطق أن الجميع سيحتاج الجميع،فمن قدم السبت وجد الأحد،والشاطر من لايغضب أحدا أبدا،فعلى الباغى تدور الدوائر.كأنها شبكة من العصابات الثقافية والمليشيات الفكرية يجمعها الحرص على وجودها الشخصى وحماية مكتسباتها بأفدح الأثمان على حساب مصلحة الإبداع والمبدعين والثقافة.
بالطبع قد يقول لى بعض من رزقوا التفاؤل الفطرى ليس المشهد كافكاويا إلى هذه الدرجة،فأرد عليه بأن القضية تتجاوز بكثير سطحية الاتهام بالتفاؤل والتشاؤم معا لينال جوهر العقل الثقافى العربى نفسه،إذ نأى هذا العقل كثيرا عن أصالة الكتابة بوصفها معاناة وانتظارا وحلما واستشرافا وصبرا وكدا وعرقا شريفا،وانشغل بفن تصنيع الكاتب النجم الذى يأكل بثدييه،بعد أن غزت ثقافتنا وحياتنا الضآلة والضحالة والخفة والفسولة،شحب فن الصناعات الثقيلة ودخلنا زمن التأليف الجاهز قرين الملابس الجاهزة،وآليات السوق المتوحش،وتحولت فنون الكتابة والإبداع إلى فن صناعة النجم: مثلها تماما مثل فن صناعة النجم الرياضى والأدبى والسياسى حتى ظهر عندنا المفكر النجم الذى تنبع نجوميته من شهرته لا من قيمته،وهناك فرق كبير وحاسم بين صناعة الشهرة وصناعة القيمة،وكلاهما فن لاينتمى لعالم الآخر بأية صلة،فالنجم يلتمع فجأة ثم يتلاشى فجأة فهو بلا تاريخ شخصى وبلا استشراف مستقبلى،بينما القيمة ترسو وتترسخ فى الأعماق مثلها مثل العبقرية تتكون فى هدوء وصمت وعزلة،فما نبتت شجرة عز إلا إذا دفنت فى تراب كد وجهد أو كما يقول الصوفى العظيم ابن عطاء الله السكندرى (ادفن وجودك فى أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لايتم نتاجه) فتجويد الإبداع وصقله وتنميقه وتأنيقه يحتاج إلى تغضين الجبين وصبر السنين، وعزلة صابرة، وإطفاء لكافة الأضواء المشوشة فى الخارج للإخلاد إلى عتمة الداخل حيث التأسيس الفكرى منازلة ضارية مع صمت المعاناة بعيدا عن صخب التصفيق وإغواء مراكز النفوذ الأيديولوجى. فشجرة الإبداع الأصيلة تنبت فى الصمت الخالق حيث يختفى جذرها الراسخ العتيد فى أصل التراب حتى تتكون التكوين الرصين ثم تشق طريقها السامق فى الهواء والضوء.
والسؤال هنا :متى يكف سدنة الجوائز الكبار عن تضليل الكتاب بوسائل تدجينهم وآليات استقطابهم للتثبت من ولائهم الشخصى والسياسى والجمالى؟،حتى إذا حصل النجم الزائف على الجائزة بعرق الاتصالات ورهق الترتيبات وعبقرية التدبيرات ظن نفسه أحد قادة الإبداع العربى العالمى المعاصر. لكنه فى الحقيقة لاوزن له ولاعمق ولاكثافة بل خفة وسطحية ولمعان وبريق.فكما يقول المفكر المغربى عبد السلام بن عبد العالى ( ليس النجم من يمتلك كفاءات ولايتقن مهارات ويتميز بقدرات،ولكن قيمته تكمن فى أن له قيمة فلا وزن ولاعمق ولاكثافة …إنه مجرد سطح مجرد اسم،فالشاعر هو من يسمى شاعرا والمفكر هو من يشتهر مفكرا … ولاينبغى أن نذهب أبعد من هذا أبدا،فيجب ألا نعقد الأمور فنحملها أكثر مما تحتمل فنبحث فى الأغوار والأعماق والكثافة
ودائما تجد نجم الجوائز الزائف يلمع نفسه قبل الجائزة بقليل أو كثير،حتى تجد أتباعه يكثرون من إطلاق لقب المفكر الكبير أو الشاعر الكبير أو المبدع الكبير عليه ليل نهار لايتركون فرصة سانحة او غير سانحة دون لصق اللقب به حتى يشتهر وهما بهذا اللقب فيحقق ذيوعا سائرا بصرف النظر عن حقيقة ذلك من عدمه!! بل تكمن حقيقة الأمر فى كثافة الإشتهار فقط لا فى حقيقة القيمة.حتى يسلم الجميع رسوخ الاشتهار والإشهار وكثافة الذيوع يسلمون مضطرين بالأمر الواقع فيقولون مثلما يقول بقية الناس: الشاعر الكبير والمفكر الكبير والمثقف الكبير،ثم يتحول ما كان يعمل كمظهر ليكون هو حقيقة الجوهر.ومن ثمة تلعب كثير من الجوائز الأدبية دور التسطيح والتسييس والامتثال والابتذال مطيحة بالإبداع الأصيل لصالح الأشباح الثقافية الوهمية،إنه عالم الأوهام والإعلام والإشهار والحقيقة الوهمية الكاذبة.
لقد شاهدنا عشرات الأمثلة ممن حصلوا على جوائز الدولة التمع نجمهم فجأة ثم اختفى للأبد كسهم مر فى الظلام،فلم تظهر لهم أية قيمة أدبية أو فكرية أو ثقافية تذكر من بعد. لأن الشهرة المصطنعة المدبرة الآنية لاتصنع مبدعا حقيقيا،بل تنتهى بمجرد انتهاء تدبيرها وإحكام صنعتها.فما يخلق الشهرة المدبرة يحمل عوامل فنائه فى ذاته فهو شبح من ورق،ومايخلق القيمة الإبداعية الحقيقية لايموت أبدا فهو نار إبداعية لايخمد ضرامها أبدا.وتظل المسافة شاسعة فادحة بين الشهرة المصطنعة والقيمة الإبداعية الحقيقية.
وقد أدت هذه الأوضاع الثقافية المتردية إلى تخليق ظاهرة قناصى الجوائز الذين يجيدون فن الحصول على الجائزة من خلال تأليف المؤلف لنفسه ــ لا تأليفه للإبداع ـــ فمجده هو الحصول على الجائزة فقط لاقوة الانتساب إلى مجد الكتابة،فالكتابة للجوائز صارت مهنة لها تقنياتها وطقوسها التى تخص الجوائز وحدها لاغير،مثلها مثل مكاتب إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه التى تعد فى (بير السلم) نظير أجر مخصوص،كتابة لها طقوسها البنائية الخاصة : مثل تضخيم عدد الصفحات وكثافة المراجع الحديثة مع تعدد لغاتها،وتنظيم الأبواب والفصول وتفريعها وترتيبها بصورة توهم بعمق المعرفى ودقة المنهج،كما توهم المراجع بمعرفة أكثر من لغة،ثم إجادة اللقاءات الإعلامية والتليفزيونية مما يكثف الوجود البصرى المرئى لصاحب الجائزة. ،فإن استشعر المتقدم للجائزة بعض القلق من بعض المحكمين اتصل به يوميا حتى ينال رضاه لأن أستاذ هذا المحكم أو ذاك قد وصى علي المتقدم للجائزة ،وبالفعل سرعان ماينال رضاء المحكمين،لأن أستاذ أحد المحكمين سوف يحكم فى جائزة أخرى كبيرة تهم تلميذه المحكم،ولأن الأستاذ المحكم وتلميذه المحكم مثله مثقلون بالتحكيم فى كوشة جوائز أخرى فلا وقت عندهم للقراءة ومعرفة الإبداع الأصيل من الدخيل فكل وقتهم مكظوظ بالعلاقات العامة لفندقة شؤون الجوائز، ووسط هذه العوالم السفلية السلفية تتصالح المصالح فورا كلها على حساب قيمة الإبداع.
ثم يحصل صاحب الحظوة على الجائزة فتتلقف الخبر وسائل الإعلام،مؤسسة قيمة الشهرة على حساب قيمة مجد الكتابة،فتغدو معها الجائزة أداة من أدوات اختلال القيمة فى المجتمع، وإعادة توزيع الأدوار وانتقال رأس المال الجمالى من قيمة الثقافة إلى بورصة الصرافة،ثم يتحول المحرومون من الجائزة إلى حائط المبكى الثقافى نادبين حظهم العاثر مولولين فى كل محفل بأنهم الأحق بالجائزة وفى الحقيقة هم يتباكون لأنهم لم يتمكنوا من إتقان فن صنعة الجوائز مع أن المبدع الحقيقى الجاد لايبكى ولايتباكى لأنه ببساطة ممتلىء بثقة الإبداع وعمق الإحساس بقيمة مايكتبه،فالجائزة هى التى تبحث عنه لا العكس،لكن خطاب الشكوى والتباكى يعد جائزة موازية عله ينفع الباكى فى الجائزة القادمة فى العام القادم.فترى البكاء النادب يعدو العدة من الآن ويجهز الآليات حتى يقتنص الجائزة فى العام القادم،ثم يحصل عليها بالفعل،فكأن جل جوائزنا لها آلياتها وتقنياتها فمن يتقنها كأنه أعطى الجائزة سلفا قبل أن يعلن عنها،وما الأمر سوى تمرير إجراءات،وتبرير تقارير،وفبركة أحكام.
ويبقى السؤال مفتوحا كجرح نازف فى واقعنا العربى الثقافى المأزوم : ما هو السبب الكامن وراء هذه الظواهر المكررة فى حياتنا الأدبية؟.
Discussion about this post