أحمد كيرة بطل في الظل(9) .
د ماهر جبر
( كان لغزاً في حياته، مثلما كان لغزاً في مماته ) يحيى حقي .
محاكمة اليوم كسابقتها ليست ككل المحاكمات، فلم تتم إجراءاتها في دار المحكمة كما هو معتاد، ولم تُشكل من هيئة القضاة، والدفاع، وممثل الإدعاء، وإنما هي محاكمة تمت بعيداً عن أرض مصر لأحد أبطالها، محكمة قاضيها هو جلادها، فأصدرت أحكامها نهائية دون إستئناف أو معارضة.
محاكمة تمت لأحد أبطال الجهاز السري لثورة 19، والذي أسسه عبد الرحمن فهمي، احمد ماهر بعلم سعد باشا زغلول، نتحدث الآن عن أحد رموز هذا الجهاز الذي ضحى بنفسه من أجل هذا البلد، ومات غريباً عن أهله، كما عاش غريباً .
نذكر هذا البطل حتى تعرفه الأجيال الحالية، وان كنت أقطع أيضاً بأن الأجيال السابقة لا تعلم عنه شيئاً، فنحن ماهرون في إخفاء رموزنا وإهالة التراب عليهم، وإنما فقط نحتفي بالزبد الذي يذهب جُفاء، وأما ما ينفع الناس فنحن أبعد ما يكون عن ذكره أو مجرد الإشارة اليه من قريب أو بعيد.
بطلنا اليوم إسطورة الجهاز السري لثورة 19، لكنه ليس كإسطورة اليوم الذي تتغنى به وسائل الإعلام، بطلنا اليوم هو أحمد عبد الحي كيرة، يقال عنه إنه من تمت الإشارة اليه في فيلم ( في بيتنا رجل ) للكاتب والأديب إحسان عبد القدوس، والذي جسد دوره الفنان عمر الشريف، وذلك على خلاف في الرأي فالبعض يرى أن المقصود في الرواية هو حسين توفيق وهذا له شأن آخر سنعرض له لاحقاً.
البطل كيرة هو أحد شبابنا الذي قدم حياته وعمره فداءً لوطنه دون مقابل، فمنذ أن كان طالباً في كلية الطب إنخرط في العمل السياسي وإشترك في عدة خلايا سرية لثورة 19، وقام بالعديد من عمليات الإغتيال للضباط الإنجليز، فما هي حكايته تحديداً ؟.
نحن الآن في عام 1896م، إقترب النهار على منتصفه في مدينة فارسكور إحدى مدن محافظة دمياط الباسلة، الشيخ عبد الحي كيرة يجلس في دكانه، بينما بدأ يتهيأ للذهاب الى المسجد لآداء صلاة الظهر، إذ جاءته بشرى تزف اليه قدوم مولوده الجديد، فذهب الى بيته مسرعاً مملوء بالسعادة والسرور، وكان من لهفته على الوصول الى زوجته يشعر وكأنه يمشي الى الوراء، فلما وصل وحمل المولود بين يديه إختار أن يسميه أحمد، ليصبح أحمد عبد الحي كيرة سطر مضيء في أنصع صفحات التاريخ المصري، ولم يكن يدري أحد المصير والمستقبل المملوء بالتشرد والهيام الذي ينتظره، وكانت والدته كلما نظرت اليه وهو يلعب بين أقرانه تشعر وكأنها تراه للمرة الأخيرة، وقد صدق حدثها فعندما غادرهم بعد ذلك متوجهاً الى القاهرة لدراسة الطب، لم يعد اليهم مرة أخرى ولم يروه ثانية، بل حتى بعد موته فإنه لم يدفن في مصر كلها .
يقول عنه كاتبنا الكبير مصطفى أمين في كتابه الممنوع أسرار ثورة 19، أنه أتى من مدينة فارسكور حيث أرسله والده الشيخ عبد الحي كيرة التاجر هناك ليدرس الطب في القصر العيني وأنه أحد أبطال الجهاز السري للثورة، الذي قاده عبد الرحمن فهمي ……… لكن إتصاله بالأعمال السرية حدث قبل الثورة حيث إشترك وهو طالب بمدرسة الطب في مؤامرة القاء قنبلة على السلطان حسين كامل يوم 8 ابريل 1915م، وكما يقول أيضاً د مصطفى الغريب في كتابه(السلطان حسين كامل) أن من نفذ هذه العملية شاب إسمه محمد خليل من المنصورة من أنصار للحزب الوطني بزعامة محمد فريد، وكان سبب ذلك خلع عباس حلمي الثاني المعروف بمساندته لمصطفى كامل والحركة الوطنية المصرية، وتجليس الإنجليز للسلطان حسين كامل على مصر في 19 ديسمبر 1914م ، كما ذكرت د لطيفة سالم في كتابها (مصر في الحرب العالمية الأولى) أنه بعد أن تم القبض على محمد خليل، إقتادوه الى قسم عابدين وهو يهتف بسقوط الإنجليز، و يصف السلطان بالخيانة .
تم القبض على كيرة وأمضى عدة أشهر في المعتقل، لكن الإنجليز لم يستطيعوا إثبات التهمة عليه، وإستأجر والده محامياً إنجليزياً للدفاع عنه وبرأته المحكمة، ونجا من الإعدام بإعجوبة، الغريب في الأمر أن مهمة كيرة كانت قائمة على الكتمان لكسب ود الإنجليز، مما عرضه للإهانة من زملاءه واتهامهم له بالخيانة والتخاذل، فأي نفس تقبل هذا إلا نفس تجردت من كل هوى أوغاية غير حب الوطن، ففي نفس الوقت الذي يمثل فيه أعظم صور الوطنية، عليه أن يتقبل نظرات الإحتقار وكلمات الإهانة من أقرب الناس اليه، غير مباح له إفهامهم الحقيقة، فعندما قامت الثورة كان يرفض تماماً المشاركة في مظاهراتها مؤكداً لكل من حوله أنها عديمة الجدوى، ولم يكن ذلك سوى تمويه عن نشاطه السري الخطير، كان الطلبة جميعاً مضربين ومشاركين في أحداثها، إلا عبد الحي كيرة الذي كان يذهب كل صباح الى مدرسة الطب، فيستهدفه الطلبة بالإحتقار والإهانة، ويقولون هذا ابن اللنبي( الحاكم العام الانجليزي)، وكان مدير كلية الطب يراه ابن الإمبراطورية الإنجليزية، وكان لا يفتح أبوابه إلا له، وأصدر أمراً أن يفعل عبد الحي كيرة ما يشاء، وأن ينتقل بين غرفات الدرس والمعامل كما يشاء وفي أي وقت يشاء، وهذا ما أراده كيرة بالتحديد، فكان يدخل معامل مدرسة الطب ويأخذ منها مواد تدخل في تركيب المتفجرات، هو وصديقه محمد حلمي الجيار، ويسلمها للطالب أحمد ماهر القيادي بالجهاز السري للثورة، والذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء مصر، لقد فشلت كل محاولات المخابرات البريطانية لكشف تفاصيل الجهاز السري وخلاياه التي أسسها عبد الرحمن فهمي كمقدمة للثورة، ولم ينكشف أمرها إلا بعد إعتراف شفيق منصور المحامي أثناء التحقيقات التي جرت عام 1924م بصدد مقتل السير لي ستاك، وهنا ظهر إسم احمد عبد الحي كيرة كأحد العقول المدبرة لما حدث من إغتيالات للضباط الإنجليز طيلة الفترة الماضية، فجُن جنون القادة الإنجليز، وبقدر ما كانت ثقتهم فيه وحبهم له، وإعتبارهم له بمثابة الإبن المدلل، بقدر ما أصبح الإنتقام لديهم ضرورياً وفورياً، مما جعله هدفهم الأول، فأخذ في التخفي والتنكر ومحاولة تغيير لهجته حتى لا يتم التعرف عليه، وبدأت المخابرات البريطانية تطارده في كل مكان حتى أنها أصدرت منشوراً في 9 ديسمبر 1924م لجميع مكاتبها في جميع دول العالم تقول فيه( إقبضوا عليه حياً أو ميتاً، إسمه أحمد عبد الحي كيرة، كيميائي
قمحي اللون، قصير القامة، عريض الصدر، به آثار حروق على خده الأيسر، ذو شارب خفيف وعمره 28 عاماً .
بدأ الإضطراب والقلق يسيطر على حياته، فأخذ يتنقل هنا وهناك، ولم تعرف الراحة اليه طريق، وبدأت قيادة الجهاز السري في الإعداد لتهريبه الى ليبيا ومنها الى تركيا، وظل هناك سنوات كثيرة مطارد لا يستقر ولا ينام في بيت واحد أكثر من ليلة، فأي شيء يدفع الإنسان الى هذا إلا عقيدة يعتنقها أو مبدأ يضحي من أجله بالغالي والنفيس.
ذكره كاتبنا الكبير يحيى حقي في كتابه (ناس في الظل) وقد كان يعمل في سفارتنا في إستنبول عام 1930م قائلاً:. إنه بعبع الإنجليز، يبحثون عنه بعد أن فتلوا له حبل المشنقة، كنت لا ألقاه إلا صدفة وألح عليه أن نأكل معاً فيعتذر قائلاً قريباً إنشاءالله، ظل هذا حاله معي أربع سنوات كاملة، كلما أدعوه يعتذر بأدب، وقد رأيت فيه المثل الفذ للرجل الشريد، وكانت ملابسه تدل على مقاومة عنيدة للفاقة، وغلبت صفرته التحتانية على لونه الأصفر، يمشي على عجل ويحذر كأنه يحاول أن يفلت من جاسوس يتبعه، ويخلو كلامه من أي عاطفة، فلا تدري إن كان متعباً أم غير متعب، جيبه نظيف أم دافيء، معدته خاوية أم عامرة، حاولت أن أعرف أين يسكن، فلم أنجح، وقيل لي إنه يسكن في ثلاث شقق كل منها في حي بعيد عن الآخر، ولا ينام في فراش واحد ليلتين، إنه يعلم أن المخابرات البريطانية لن تكف عن طلبه حتى لو فر الى أقصى الأرض، إنها لا تنسى ثأرها البائت .
إنتهى كلام الأديب يحيى حقي عنه لكنه أثار في ذهني قضية هامة وهي الإنتماء الى هذا البلد، فإنظر كيف كنا وكيف أصبحنا، وما هي النماذج التي يجب أن نحتفي بها، وماهي النماذج التي نحتفي بها الآن بالفعل ؟، مما لا ريب فيه أن قضية الإنتماء تراجعت بصورة كبيرة وإن كانت تُطل علينا برأسها من حين الى آخر لتؤكد على الدوام عظمة هذا الشعب وعراقته .
على كل الأحوال وصلنا الآن الى عام 1936 ومازال بطلنا هائم على وجهه لا يستطيع رؤية أهله وبلده التي ضحى من أجلها، كان ينام وإحدى عينيه مفتوحة، تطارده الكوابيس في نومه وفي يقظته، لم يهنأ بلقمة يقتاتها، كما لم يحلم ببيت وزوجة وأسرة، بل لم يحلم حتى بالعودة الى والديه، كان يمشي في الطريق يلتفت يميناً ويساراً بل يمشي بظهره أحياناً وكأن به مس من الجنون، يشعر بأن هناك من يعُد عليه أنفاسه، وأنه لابد قاتله، تعب البطل كثيراً لكن آن الأوان أن يستريح، وبدأت خيوط المؤامرة تُحاك بإتقان للإيقاع به، ففي نفس العام توجه الى تركيا عملاء للمخابرات البريطانية وبحثوا عنه طويلاً الى أن إستطاعوا الإيقاع به فإغتالوه ومثلوا بجثته، وتركوه في حفرة بجوار سور إستنبول القديم، وظل كذلك عدة أيام تنهش جثته البوم والغربان، وكما عاش وحيداً مات وحيداً، أَمثل هذا البطل يُنسى ويُجَهل ولا يعرفه أحد، ألا يستحق أن توضع صوره في واجهات مدارسنا وجامعاتنا حتى نحفظ جميعاً تفاصيل وجهه علها تكون دافعاً لعودة ما فقدناه من إنتماء وحب لهذا البلد، والسؤال لماذا يتم تجهيل رموزنا ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
أحمد عبد الحي كيرة صفحة أخرى سطورها من نور في سجل البطولة الخالد.
Discussion about this post