قبل فترة من الزمن، كنت قد التقيت بمجموعة من أصحاب القلم والفكر في لقاء خاص، وهم من اتجاهات سياسية وفكرية مختلفة، وكان من بينهم سيدة متكلمة وهي في أواخر العقد الرابع من عمرها، وكانت تلك السيدة تستفيض في شرح الآية القرآنية التالية: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وتبين ذلك وفقاً لرأيها فتقول: الراسخون لديهم العلم والمعرفة ويستطيعون تأويل الكتاب العزيز، وهم أحق من غيرهم في ذلك، وليس هنالك من عائق أمامهم، فالله يعلم والراسخون أيضاً.
ما كنت أرغب الدخول في مثل هذه السجالات، إلا أني أردت أن أصحح مفاهيمها حول ما ذكرت، فتدخلت لتصحيح ما ساقته تلك السيدة بكل أمانة كي امنع التباسها حيال النص القرآني المذكور مبيناً الأمور الآتية فقلت لها:
1- لابد من الإقرار أن النصوص القرآنية متكاملة وهي ذات وحدة موضوعية تطرح على كامل الكتاب العزيز منعاً من سوء الفهم أو وجود المتناقضات في المفاهيم القرآنية، فكيف يكون وفقاَ لرأيك الله والراسخون يعلمون في هذا النص بالتأويل وفي نص آخر يقول الله تعالى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) أليس هذا النص ينفي المعرفة الكاملة عن سواه ويبين أنها حالة نسبية مقابل ما ذكرتيه أن الله يعلم والراسخون؟
2- لابد من الإقرار أن القرآن الكريم يفسر القرآن كوحدة متكاملة تبين المعنى الاجمالي والتفصيلي المراد من ذكر الآية القرآنية، والتي لها مناسبة تاريخية رافقت التنزيل، بمعنى لا يوجد آية واحدة بدون مناسبة وحدث تاريخي.
3- لابد من الانتباه أنه في الآية القرآنية الواحدة قد نجد أكثر من موضوع واحد، مما يعني أن الآية القرآنية ليست بالضرورة مختصة بعنوان واحد، والأمثلة في هذا السياق كثيرة، ومنها الآية المذكورة.
4- هنالك في الكتاب العزيز آيات محكمة وآيات متشابهة، يقع سوء الفهم في عرض متنها ، لذا لابد من التمييز فيما بينها، وهذه المسألة تفترض ان يكون هنالك من لهم دراية في هذا العلم والاختصاص، فضلا عن تحديد الآيات الناسخة والمنسوخة منها.
5- الآية (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) تشمل أكثر من موضوع، أولا العلم والتأويل كما ذكرت الآية، هي حصرا بالله تعالى دون غيره، وأما حرف الواو بين كلمتي الله والراسخون، اعرابيا ليست حرفا للعطف، كما يتوهم البعض،.. إنما هي حرف ابتدائي، ولذا كلمة الراسخون مبتدأ، مما يعني أن هنالك إشارة واضحة إلى موضوع آخر، يكون بداية الكلام فيه كلمة الراسخون.
6- إجتزأ ما ورد ذكره من أصل الآية القرآنية لا يمنح المعرفة الكاملة، باعتبار النص المذكور هو جزء من آية لابد فيها من العودة إلى كامل النص. والنص لا يبين الترابط بين الله والراسخون في العلم والمعرفة.
7- في القراءات التجويدية أو الترتيلية للنص القرآني، هنالك أماكن عديدة تحرم فيها الوقف أثناء القراءة في مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) فلا يجوز الوقف عند كلمة لاَ يَسْتَحْيِي لأن فيها ذم .. وأيضاً هنالك عدة أماكن يصبح الوقف فيها لازماً وواجباً كي يمنع سوء الفهم، كما هو الحال في الآية (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، فلابد في القراءة من الوقف آخر كلمة الله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) والبدء بالكلام مجدداً بجملة جديدة مقدمتها (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) منعاً من التباس الفهم، أو جعل المعرفة نظيرة بعضها البعض فيما بين الله والراسخون .
لذا اقتضى التنويه.
Discussion about this post