الطنطاوى الأزهرى ابن نجريج
سبق مو صلاح إلى العالمية (1)
بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
وأما مِن قِبل البرد فلم يضرّنى جدا، إنما ألزمنى ربط منديل فى العُنق، ولبس فروة إذا خرجتُ، وأما فى البيت فالمدافئ المتينة مُعدّة لإدفاء الأوَض، وطالما أنشدتُ عند جلوسى قُرب النار:
النارُ فاكهةُ الشتاء فمَن يُرِد *** أكلَ الفواكهِ فى الشتاء فليصطَلِ”
هكذا عبر الشيخ عياد الطنطاوى عن البرد القارس فى روسيا وكيف تعامل معه وهو يستقر هناك منذ قرابة 180 عاما، فمن يكون الشيخ الطنطاوى وما حكايته؟
الإجابة عن السؤال تعود بنا إلى جذور هذا الشيخ فى قرية عرفت الشهرة منذ عدة سنوات مع سطوع نجم ابنها لاعب الكرة محمد صلاح؛قرية نجريج ،وهى من القرى القديمة، حيث وردت باسم «نجريج» فى أعمال الغربية ضمن قرى الروك الصلاحى التى أحصاها ابن مماتى فى كتاب قوانين الدواوين، كما وردت باسم «نجريج» فى أعمال الغربية ضمن قرى الروك الناصرى التى أحصاها ابن الجيعان فى كتاب «التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية». وفى العصر العثمانى وردت باسم «نجريج» فى التربيع العثمانى الذى أجراه الوالى العثمانى سليمان باشا الخادم فى عصر السلطان العثمانى سليمان القانونى ضمن قرى ولاية الغربية، وفى تاريخ 1228هـ/1813م الذى عدّ قرى مصر بعد المسح الذى قام به محمد على باشا باسم «نجريج» ضمن قرى مديرية الغربية.
هذا ماتذكره كتب التاريخ والجغرافيا عن نجريج
التى فيها كانت نشأة الشيخ الطنطاوى، ويعرف المهتمون بكرة القدم المجانين بنجومها أن قرية نجريج تلك هى مسقط رأس ومنشأ لاعبنا العالمى محمد صلاح الشهير فى العالم ب”مو صلاح” ،لكن قدر الطنطاوى كقدر كثيرين من أهل العلم والدين ترك لذكره حيزا يكاد يكون منسيا مهملا رغم ما لعبه هذا الشيخ من دور مهم فى التقريب بين الشرق والغرب وتعريف أهل روسيا بالإسلام وأهله،فلنستعرض معا حكاية الشيخ عياد الطنطاوى:
ولد الشيخ محمد عيّاد الطنطاوى فى “نجريد” ـ هكذا تذكرها ويكبيديا خطأ والصحيح هو نجريج ـ من قرى مديرية الغربية بمصر عام (1225هـ – 1810م) لأب ينتمى إلى “محلة مرحوم” بالغربية يعمل فى تجارة الأقمشة والبن والصابون بين قرى ومراكز الغربية، عندما أتم “محمد” السادسة بدأ يتردد على الكتّاب فى طنطا، وبعد أن أتم حفظ القرآن مرتين، حفظ متونًا كثيرة كمتن المنهج فى علم الفقه، وألفية ابن مالك، ولما بلغ العاشرة بدأ فى دراسة الشروح والتعاليق على المتون التى حفظها على يدى الشيخ “محمد الكومي” والشيخ “محمد أبو النجا”، ولما بلغ الثالثة عشرة رحل مع عمه إلى القاهرة، وما لبث أن تبعه أبوه.
وفى القاهرة انتظم فى الدراسة بالجامع الأزهر، وهناك تعلم على يدى الشيخ إبراهيم الباجورى صاحب الشروح العديدة فى العقائد والفقه والنحو والمنطق، والذى صار شيخًا للأزهر فيما بعد، كما تعلم على يدى الشيخ حسن العطار الذى كان عالمًا وشاعرًا، ثم صار شيخًا للأزهر، وهناك زامل الطهطاوى الذى كان يكبره بعشر سنوات، وبعد مضى خمس سنوات فى القاهرة توفى أبوه فتهاوت أحوال الأسرة المالية، وحينئذ اضطر طنطاوى أن يترك الدراسة المنتظمة مدة سنتين لكسب وسائل معيشته، فكان يقضى أكثر أوقاته فى طنطا يزاول التدريس حينًا والدراسة حينًا آخر، وهناك تعلم على يد الشيخ مصطفى القناوى شيخ المسجد البدوى الذى أعطاه إجازة تدريس الحديث من الكتب الستة، إضافة إلى موطأ مالك عام 1244هـ – 1828م.
وبعد ذلك بدأ تدريس تفسير القرآن والمنطق بالجامع الأزهر، ولكنه كان مولعًا بعلوم اللغة وآدابها، فبدأ يعطى دروسًا فى الشرح والتعليق على كتب الشعر والأدب، فكان الأول تقريبًا فى هذا الميدان، وفى عام 1252هـ وقع فريسة للوباء الذى تفشى بالقاهرة حتى شاع فى المدينة أنه تُوفِّي، غير أنه عوفى وظل يعمل بالتدريس بالأزهر عشر سنوات تقريبًا، غير أن التدريس فى الأزهر لم يكن يكفل الكسب الكافى لأهله؛ لذلك كان كغيره يبحث عن عمل ثان، وكان أمامه أن يعمل محررًا ومصححًا فى المطابع، وما كان يجوز الجمع بين تلك المهنة والتدريس فى الأزهر الذى كان يقدره الطنطاوى حق قدره، فرفض هذا العمل رغم دعوته إليه أكثر من مرة، وفضّل على ذلك العمل على تدريس اللغة العربية وآدابها للأجانب، فعمل فى المدرسة الإنجليزية فى القاهرة مدة، ثم اتسع نطاق حلقة تلاميذه اتساعًا غيّر مجرى حياته فى المستقبل.
معلم المستشرقين
كانت مشروعات “محمد علي” فى مصر قد جذبت الكثير من الأجانب الذين عملوا فى وظائف مختلفة، لكن الكثير منهم انخرط فى سلك الاستشراق، على الرغم من أن بعضهم لم تكن ذلك من اهتماماته فى بداية مقدمه لمصر، ولما اشتهر الطنطاوى كمعلم للغة العربية الفصحى وآدابها اجتذبته هذه البيئة الطارئة فأثّر فيها وتأثر بها؛ إذ إن رحيله إلى روسيا لم يكن إلا نتيجة مباشرة لتعرفه بالعلماء الأوربيين الشبان.
وكان أول هؤلاء الفرنسى فرنيل Fresnel صاحب “الرسائل فى تاريخ العرب قبل الإسلام” الذى قدم إلى مصر عام 1831، ودرس مع الطنطاوى سنتين، وأثمرت هذه الدراسة ترجمة فرنيل لشعر الشنفرى، وقد ظلت الرسائل متصلة بينهما حتى بعد رحيل الطنطاوى إلى روسيا، وقد أدت مدارسة طنطاوى لفرنيل، إلى زيادة اطلاع طنطاوى على اللغة العربية وآدابها، كما كان لفرنيل الفضل على طنطاوى فى تعلمه للغة الفرنسية.
أما الثانى فكان الفرنسى پرون Peron الذى كان طبيبًا فى مستشفى قصر العينى، والذى اشتهر فى عالم الاستشراق فيما بعد، وقرأ معه الطنطاوى فى كتاب الأغانى، وكتاب العقد الفريد، وقد أثمرت هذه المدارسة عن كتاب بيرون حول علم الخيل وأنسابها، واستمرت تلك المدارسة حتى سافر الطنطاوى إلى روسيا.
وممن تعلم على يديه أيضًا الألمانى ڤايل Weil الذى اشتهر فيما بعد كمؤرخ للخلافة، وكان مراسلاً لصحيفة ألمانية ومعلمًا بسيطًا للغات الأجنبية فى القاهرة، وقد قضى أربع سنوات بها ودرس على الشيخ الطنطاوى فى نفس الوقت الذى درس فيه فرنيل، وقد أثمرت تلك المدارسة عن اشتغال فايل بتدريس الآداب الشرقية فى جامعة هايدلبرج.
كما درّس الطنطاوى للألمانى پرونر Pruner الذى عمل طبيبًا أول الأمر فى أبى زعبل، ثم انتقل إلى قصر العيني، ورافق الجيش المصرى إلى الحجاز فى حملته ضد الوهابيين. ولا يعرف من مؤلفاته فى الاستشراق إلا القليل، غير أنه اقتنى مجموعة من المخطوطات العربية والفارسية والتركية تصل إلى 51 مخطوطة، أهداها فيما بعد إلى مكتبة ميونخ.
وكان من بين تلاميذه أيضًا من المستشرقين الشباب روسيان، هما “موخين” و”فرين”، وكانا تِربين تخرجا فى مدرسة واحدة، وخلف أحدهما الآخر فى القاهرة، أما موخين فقد تخرج فى قسم التاريخ والآداب الشرقية بجامعة بطرسبرج، وكان يعمل مترجمًا فى القنصلية العامة الروسية فى مصر، وهناك تلقى دروسًا على يد الطنطاوى فى العربية، ودرس الشعر العربي، واقتنى مجموعة من المخطوطات، وأخرى من الآثار المصرية القديمة.
وقد خلف فرين زميله موخين فى القاهرة، وهو ابن جوزيف فرين مؤسس المتحف الآسيوى فى بطرسبرج، ورث عن أبيه حب الاستشراق، ومن ثَم قام هو الآخر بتزويد المتحف بمخطوطات ونقود قديمة جمعها خلال رحلة عمله، وقد تتلمذ فرين هو الآخر على يد الطنطاوي.
الرحيل إلى روسيا
كان لهذين التلميذين أثرهما فى قرار الطنطاوى بالرحيل إلى روسيا، يقول الطنطاوى عن ذلك: “إن طلبهما كان أول دافع لسفرى إلى روسيا”، وكان معلم اللغة العربية بالقسم التعليمى التابع لوزارة الخارجية الروسية قد ترك عمله، فكلف وزير الخارجية الروسى قنصله العام فى الإسكندرية بالبحث عن معلم مناسب من علماء العرب، وقد وقع اختيار القنصل عليه، وقد حث محمد على باشا والى مصر الطنطاوى على تعلم اللغة الروسية وإتقانها.
وقد غادر الطنطاوى القاهرة عام 1840، وكان السفر عن طريق النيل إلى الإسكندرية، ومن هناك ركب الباخرة، وقد وصل إلى أوديسا على ساحل البحر الأسود يرافقه تلميذه السابق موخين، ومن هناك غادر إلى كييف، ثم واصل رحلته بعد ذلك ليصل إلى بطرسبرج فى 29 يونيو من ذلك العام.
كان رحيله إلى روسيا حدثًا كبيرًا ليس فى حياته فحسب، بل وفى الاستشراق الروسى أيضًا، حتى إن الصحافة الروسية أعارته انتباهًا كبيرًا، وقد سبقه خبر وصوله إلى بطرسبرج.
حياته فى روسيا
ابتدأ الطنطاوى عمله بإلقاء محاضراته فى كلية اللغات الشرقية فى أوائل أغسطس من ذلك العام، وظل يعمل فى التدريس خمسة عشر عامًا لم يغادر فيها روسيا منذ قدومه إليها إلا مرة واحدة عام 1844، زار خلالها القاهرة وطنطا واهتم بجمع المخطوطات الشرقية، وقد امتدت مدة إقامته سليمًا معافى فى روسيا عشر سنوات فقط، تخللتها حرب القرم التى قطعت صلته بمصر، وبعدها دخل فى رحلة مرض، ظل يعانى منه وهو فى عمله خمس سنوات، أقعده بعدها عن الحركة.
وقد خلف الشيخ الطنطاوى فى قسم اللغات الشرقية سلفه “ديمانج” الذى ولد عام 1789، وهو تلميذ “سلفستر دى ساسي” المستشرق الشهير، وكان أول أستاذ للغة العربية فى دار المعلمين من عام 1816، ثم فى الجامعة من عام 1819، أما الشيخ الطنطاوى فقد ظل يعمل بالتدريس بالقسم التعليمى خلفاً له، ثم عمل أستاذًا بالجامعة عام 1847 بعد تقاعد سيمكوفسكي.
جمع الطنطاوى فى تدريسه بين الطرق العملية والنظرية، فمن جهة كان يدرّس قواعد اللغة، ويشرح أمثال لقمان، ويقرأ قطعًا من مؤلفات تاريخية، ومن مقامات الحريري، كما كان يدرّس الترجمة من الروسية إلى العربية، والخطوط الشرقية، وقراءة المخطوطات، والمحادثة باللغة العربية، وزاد على ذلك عام 1855 تدريس تاريخ العرب.
وقد نال الشيخ الطنطاوى عددًا من الألقاب والأوسمة، منها: الشكر القيصرى عام 1850 لجهوده فى التدريس لطلاب جامعة بطرسبرج، وميدالية من ملك ڤورتمبرج على قصيدة له باللغة العربية، وخاتم مرصّع بالجواهر من ولى العهد القيصرى شكرًا على جهوده فى تزيين الغرفة التركية فى قصر تسارسكى سيلو.
دام عمله فى بطرسبرج خمسة عشر عامًا (أى حتى عام 1855)، حيث أصيب فى صحته بعد افتتاح كلية اللغات الشرقية، وظلت الجامعة ترفض تعيين أحد بديلاً له رغم مرضه، إلى أن استعفى من الخدمة فى 31 يناير عام 1861، ثم ما لبث أن تُوفّى فى 29 أكتوبر من نفس العام عن واحد وخمسين عاما.
وقد تكون حياة هذا العلامة الكبير انتهت بوفاته واندثار ذكره إلا قليلا خاصة مع ما أثير عن تنصر ابنته الوحيدة عقب وفاته،لكن يبقى إلقاء أضواء على روسيا وتاريخها مع العرب والمسلمين عبر ألف عام هى عمر تلك العلاقات،فإلى لقاء آخر إن شاء الله.
Discussion about this post