بقلم … وسام محمد جواد
فلسفة الجسد
من الإحتقار إلى التسليع
*******************
يثار اليوم نقاش قديم جديد حول تعبيرات الجسد وأهميته في المجال الإبداعي وما صاحبها في السنوات الأخيرة مما سمي بالجرأة وحرية كشف الجسد سواء على خشبة المسرح أو السينما أو في الأماكن العمومية، وتطور الأمر ليصبح كشف الجسد العاري تعبيرا وسلوكا إحتجاجيا… مما يطرح تساؤلات عن فلسفة التعامل مع الجسد في ثقافة الشعوب، ويعيد السؤال عن وظيفة الفن، ومقولة الفن من أجل الفن، وسؤال علاقة الفن بالقيم والأخلاق، وسر الموجة الحالية.
….. شكل الجسد في مختلف الثقافات تمثلات أنثروبولوجية وإثنية وروحانية تتحكم فيها ثقافات الشعوب سواء المتقدمة أو التي في طور النمو، وقد سعي الباحثون إلى فهم الإنسان وكينونته من خلال التركيز على مفهوم الذات، والوقوف على المؤثرات في شخصيته سواء منها البيئية أو الإجتماعية، وقد إتفقت أغلب التحليلات على أن كل ثقافة تؤسس لمفهوم ديني عن الجسد، كما أن كل ثقافة تختزن مفاهيم وتصورات فلسفية عن موضوعة الجسد.
إن أول توصيف للجسد يبدأ من قصة آدم وحواء عليهما السلام وإكتشاف الجسد العاري ” فبدت لهما سوءاتهما ”
” فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكم الشجرة وأقل لكما إن الشيطان عدو مبين “… إنه بمجرد المخالفة يكتشف الإنسان عمق الخطأ والجزاء، تكشف عورتا آدم وحواء وبفطرة سليمة طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، هذه الحالة الغريزية التي جبل عليها الإنسان تمنع من كشف سوءته للآخر.
***************
عرفت تصورات الإنسان للجسد تغيرات عبر التاريخ… فبين من يراه سجنا للنفس يعوق إنطلاقها لصيد الحقيقة، وبين من يراه شيئا ماديا لا يترك الروح تصل إلى أصلها الرباني… ليتحول هذا التصور في القرن السابع عشر، إلى نظرة للجسد آلية، جراء المتغير العلمي الذي أصبح يرى العالم ساعة ميكانيكية ضخمة، وما الجسد إلا تابع لها… الأمر الذي كانت له إنعكاسات أدت إلى ظهور الجسد موضوعا للتجربة العلمية
… بل موضوع تغيير وتحويل، سواء عن طريق التجميل أم التعديل الوراثي… وهو ما إختلط بالدوافع الربحية، إلى درجة أن الجسد أصبح سلعة، ليس فقط في المجال العلمي من زرع وبيع الأعضاء، بل حتى في مجالات الموضة والغناء والرقص وغيرها، نظرا لما يتيحه الجسد من إمكانات الإغواء والإثارة… بكلمة واحدة، إنتقلت البشرية من مرحلة إقناعهم بضرورة إجتقار الجسد إلى مرحلة الإهتمام به.
عندما نقرأ محاورة أفلاطون ” فيدون “، المشهورة بخلود النفس، نكتشف كم أن الجسد ثقل على الإنسان، وعائق للنفس من أن تنطلق بحرية… فهو يحرمها صيد الحقيقة، ويمتعها بلوغ الكمال… إن هذه المحاورة التي كتبها أفلاطون على لسان أستاذه سقراط جاءت لتحكي لنا أخطر لحظة في تاريخ الفلسفة، المتمثلة في آخر حوارات سقراط مع مريديه.
….. المحاورة تبدأ عندما تم الحكم على سقراط بالموت، إذ لم تظهر عليه أي علامات تدل على الخوف… بل كان وجهه يشير إلى الرضا والسرور… وهو أمر أثار إستغراب تلاميذه، فإندفعوا يسألونه عن السر وراء هذه الجرأة وعدم الخوف من الموت؟ فإنطلق الحوار الذي يمكن أن نجمل بدايته في السؤال الآتي : ما العلاقة بين الجسد والنفس؟ هنا ينطلق سقراط من مسلمة أولى، وهي أن الموت بالأصل إنفصال النفس عن الجسد… ليوافقه ” سيمياس” في هذا المنطلق، وهو أحد مريديه الحاضرين لمشاهدة آخر لحظات أستاذه قبل مغادرة الحياة… ليتجه سقراط بعد ذلك، إلى توضيح بعض سمات الفيلسوف الحقيقي قائلا أنه هو ذلك الرجل الذي لا يجري وراء اللذات كلذة الطعام أو لذة الشراب أو لذات الحب… فهو لا يجعل لها إعتبارا ويحتقرها على الدوام… فهو إذن لت يهتم بشئون الجسد ويبتعد عنها قدر الإمكان، لينخرط كليا في النفس فهي بؤرة إهتمامه الكاملة… بعبارة أخرى، يؤكد سقراط مع أصدقائه _ التلاميذ، أن ما يميز الفيلسوف الحق عن بقية البشر يتجلي في تخلصه إلى أقصى درجة من علائق الجسد… وما دام الفيلسوف يصبو نحو الحقيقة فهو مطالب بألا يترك الإختلاط بين الجسد والنفس قائما… فالجسد هو السوء الأكبر لأنه يضع أمامنا ألف عائق وعائق بسبب حاجاته إلى الطعام والرعاية، ناهيك أنه يتعرض للمرض ويجرنا إلى الحب والشهوة… بل هو من يزج بنا في الحروب والمعارك بسبب الرغبة وإرادة إمتلاك الثروات، وهي كلها أمور جسدية… وهذا كله يمنع بلوغ الحقيقة في صفائها
… فالجسد لا يتيح لنا التفرغ للبحث الفلسفي، فمعه دائما الإزعاج والإضطراب والتشويش… وكخلاصة عند سقراط، فإنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة في كل صفائها ونقائها إلا إذا تم التغلب على الجسد فهو سجن النفس، وما دام الموت سيجعلنا نتحرر من الجسد كليا، فالموت إذن مطلب عند الفيلسوف، لأن النفس لم يعد لها من يكدر عليها صفوها، فستكون وجها لوجه مع الحقيقة.
*************************بقلم وسام محمد جواد
Discussion about this post