بقلم … وسام محمد جواد
الوجه الآخر للإنسان
الفيلم الصيني ” زهرات الحرب ”
***********************
لا أدري لماذا أتذكر مشاعري، والمعاني التي تسللت لقلبي بعد مشاهدة هذا الفيلم، فإستفضت في التعبير عنها بالقلم، ربما لإرضاء نفسي وربما إجلالا لمعنى أكثر شرفا، يحمله الفيلم في طيات سرده، أو ربما كان غزلا في السينما، وحبا في التحدث عنها بشتى أنواعها.
” الشرف ” كلمة يعرفها الكثيرون بحروفها الثلاث، ولكن إلى الآن _ ومرورا بمواقف وأحداث عبر الأزمنة والعصور _ لم يستشعر البعض معناها الحقيقي.
يأخذنا ” زانج ييمو ” المخرج الصيني بفيلمه ” زهرات الحب ”
إلى مداخل للنفوس البشرية، في رحلة يقودها الحب والألم والتضحية النبيلة….. بمنتهى الشرف.
وتختار كاتبة الرواية ” جيلينج يانج ” فترة عصيبة في تاريخ الصين، وهي فترة الغزو الياباني لنانكينغ عام 1937م، هذه المدينة التي حملت آمالا وجروحا غائرة، ولعل الحرب دائما بمثابة فترة قاسية وملهمة، تعري البشر، تخرج كل مكنون بداخلهم من نبل _ كان _ أو خداع وزيف، وتظهر فيها الحقيقة جلية، بمفاجآت عديدة، كثيرا ما تعلن عن نفوس، يختلف باطنها عن ظاهرها للآخرين.
برع زهرات الحب في خلق شخصياته التي ستمثل هدفه المنشود منذ أول اللحظات، فهاهو ضابط الجيش الصيني، يقوم بحماية الفتيات الصغيرات من رصاص جيش الإحتلال، ليصل بهن إلى مخبأهن في الكنيسة حيث يعشن في مدرستهن، بالرغم من قلة عتاده وعدد أفراد جيشه المتبقي، ولتظهر أولى معاني الشرف في شخصية ضابط الجيش، والذي لم يكتف بإيصال الفتيات، بل وبمتابعتهن طوال الأحداث، إيمانا منه بإستكمال رسالته في الحفاظ على أبناء الوطن.
في نفس اللحظات الأولى من الأحداث تظهر شخصيات أخرى متناقضة، فتيات الليل اللاتي تبحثن عن مأوى من الرصاص والإنفجارات، لتجده أيضا في الكنيسة، ولتدخل العاهرات _ بعد رفض خادمها جورج ( الطفل الصغير ) _ لإعتباراته الدينية والأخلاقية التي تجعله يرى أنهن بغيات غير شريفات
….. أما الحانوتي السكير الأمريكي، والذي لعب دوره
” كريستيان بيل ” ببراعة شديدة، والذي لا يهتم إلا بالعثور على النقود للعودة إلى أميركا، يجد هو الآخر في الكنيسة مخبأ له من الرصاص، لا يعتريه هم بما يحدث للآخرين، ولا يقدم مساعداته بلا مقابل، وليجتمع الكل داخل بيت الرب لتبدأ رحلة شيقة بين ثلاث مجتمعات تختلف كليا في ظاهرها، أو حتى في باطنها إلى الآن.
ربما كانت الرواية عظيمة في خلق فرصة لتواجد ثلاثة عوالم بشرية مختلفة، وربما كان السيناريو ناجحا بشكل كبير في حبكاته وسرده، لخلق عالم مثير ومدهش للرحلة، إلا أن الأكثر دهشة، هو الحالة الفيلمية التي خلقها ييمو بلغته السينمائية البديعة، منذ لحظات الفيلم الأولى، والتي يبدو أنه لم يبخل بها على فيلمه إطلاقا، فقد برع في مشاهد الحرب بشكل يجعل فيلمه من الوهلة الأولى محطا لأنظار منجذبة تجاه فيلم مثير، وليأخذنا بعده _ وبمنتهي السلاسة _ لحالة من الشاعرية والتدفق الإنساني من خلال شخصيات الفيلم، يغلفها بموسيقى تعكس دراما الفيلم بمنتهي الدفء، ويشرع في صناعة ألوان بديعة من خلال أزياء مبهجة والديكور القاتم أحيانا، لتتناقض الألوان في بهجتها مع الحالة التراجيدية للأحداث، وتتناغم في آن واحد مع مبتغاه من دراما الفيلم، لنجد أنفسنا أمام حالة بصرية شديدة الإتقان، تتحكم فيها لغة سينمائية لمخرج يعي ما يقدم على سرده، على لسان طفلة من طفلات الكنيسة.
من الطبيعي أن تختلف الثلاثة عوالم، فتيات عذاري في مقتبل العمر تملأهن البراءة، يعشن في مدرسة الكنيسة الداخلية، وفتيات ليل تمارسن الجنس بأجور من أجل متعة الآخرين، ورجل لا يهوي من الحياة إلا كأسا من النبيذ، ومالا ينفقه، وإمرأة يداعبها في لحظات إحتياجه.
فكيف لهؤلاء أن يتناغموا، كيف أن يتحابوا، هل من المعقول أن يتساووا في أفعالهم النبيلة ……؟ هذا ما فعله زهرات الحب عندما إبتعد عن السرد المعهود لأفلام الحرب، وإبتعد عن الصورة التقليدية لأفلام التشويق والإثارة، وجعل من فيلم عن الحرب، شاعرية دافئة، ووصفا حقيقيا للنفس البشرية وماتحمله بداخلها من عنف أو لا مبالاة، تتحول إلى زنسانية منشودة، لا يصل إليها غالب البشر.
الأزمات ياعزيزي، الأزمات تصنع الحقائق وتضعها أمامنا لنرى أنفسنا وفطرتها النقية، لنتخلي عن كل ماقامت بفعله الحياة، بل تجعلنا نستعيد ما فقدناه من إنسانيتنا بعد أن ظننا أنها لن تعود مرة أخرى.
عادة ما تنظر المجتمعات _ متمثلة في أفرادها _ إلى الآخرين، كما يروا من ظاهرهم، فالرجل العسكري هو من يحمل شرفا وأمانة يحافظ بها على وطنه، فهو شريف، والسكر وفتاة الليل هما الملوثان، غير شرفاء، آثرا اللهو على الجد، وأهانها جسديهما وروحيهما بلا تأنيب للضمير.
إلا أن جيلينج يان ” الكاتبة ” وهينج لو ” السيناريست ” وزانج ييمو ” المخرج “، لم يروا البشر هكذا، بذلوا جهدا حقيقيا، ليبتعدوا عن ظاهر البشر، وليسبحوا في رحلة داخلية
، تصل لعمق النفس البشرية، لتظهر ما بها من حقائق تستحق الإجلال.
ولتتفاقم أزمة الفيلم، يقتل من يقتل من الفتيات على يد جنود الإحتلال، تنتهك أعراض الطالبات، يتهاوي جنود الحماية ولا يتبقى إلا الضابط الذي ما زال مصرا على شرف رسالته، حماية لأهل بيت الرب، وأهل وطنه، وليتحول الحانوتي السكير إلي متنكر في زي القسيس، مدافعا عن الطالبات من هجوم الإحتلال عليهن بلا شفقة أو رحمة.
بقلم … وسام محمد جواد
Discussion about this post