نورا عواجه
من الصباح الباكر أنفقت يوم أمس في زيارة جديدة إلى “خليج العرب” وهو ذلك التقوس المتوغل من البحر المتوسط في شمال الصحراء الغربية.
لو استخدمنا لغة الأدب والخيال سأقول لكم إن خليج العرب هو الرد الثأري على دلتا النيل، فالدلتا تتوغل من اليايس في البحر؛ أما هذا الخليج فتوغل من البحر في اليابس.
إذا نظرت إلى ساحل المتوسط المصري ستجده يسعى إلى العدالة والمساواة؛ فكل مكسب تأخذه اليابسة من البحر في شكل رؤوس متوغلة في البحر المتوسط تقابله محاولة تعويضية من البحر للتوغل في اليابس في شكل خلجان. والعكس صحيح.
الأمور ليست على هذه الصورة الطفولية المبسطة، فهناك قوانين في الجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية على أسس بنيوية وتكتونية من صدوع والتواءات وتراجع البحر عبر ملايين السنين خلقت لنا ما نراه الآن من تناغم بين البر والبحر.
لو أني لا أعرف الخريطة الذهنية لظننت أن المسافة التي قطعتها أمس بسيارة الأجرة من الكيلو 21 شرقا إلى “سيدي عبد الرحمن” غربا تمتد في خط مستقيم وليس في قوس عميق.
فالطريق الساحلي أصبح – بفضل جاذبية رأسمال القرى السياحية – يمتد في خط انسيابي ناعم ممهد بحارات متعددة وجسور للدوران وربط بالمحاور الإقليمية.
ينسب خليج العرب إلى بلدة “برج العرب” وهي منسوبة بدورها إلى القبائل العربية التي تسكن غرب الدلتا.
لكن العرب هم موجة حديثة على الخليج، فالمراكز العمرانية في المنطقة أقدم من العرب بقرون بعيدة، فقدماء المصريين أسسوا هنا مراكز وتركوا آثارا عدة سار على هديها الغزاة اللاحقون من اليونان والرومان والعرب والعثمانيون والأوربيون (لم يكن ينقصنا سوى الروس !).
“خليج العرب” إقليم جغرافي بالغ التفرد، خط الساحل أصبح اليوم أحد أغلى خطوط السواحل في العالم في ثروته العقارية، الأرقام التي يتم تداولها هنا فلكية وتعبر عن توغل وتغول واضح من أجل” تسليع” البحر والشاطئ والرمل.
لعلي من القلائل الذين عرفوا “خليج العرب” وهو بعد سلسلة من المستنقعات والبرك والملاحات والكثبان الرملية ومزارع التين وحدائق الزيتون والليمون وحقول الشعير.
لقد بدأت مسيرتي في الجامعة بإعداد رسالة الماجستير عن هذا الخليج في الفترة من 1993-1996.
اليوم، وبعد مرور ثلاثة عقود لا أصدق نفسي وأنا أرى 20 برجا شاهقا في العلمين الجديدة تحتل مواقع كثبان رملية ومستنقعات ملحية قديمة.
العلمين الواقعة على مسافة 100 كم من الإسكندرية تحمل اليوم مسميات عقارية مدهشة للغاية.
وقفت برهة أتأمل مسمى كومباوند سياحي يحمل اسم “الحي اللاتيني”.
طاف بي الخيال وأخذتني الذكريات إلى الحي اللاتيني في وسط باريس والذي يعد قبلة للمثقفين والرسامين والفنانين والكتاب.
في زيارتي للحي اللاتيني في باريس قبل سنوات بعيدة كنت أبحث عن المقاعد والأماكن التي كان يجلس فيها توفيق الحكيم وكأني أفتش عن مصادر الإلهام.
من الطريف جدا أن أجد الحي اللاتيني هنا في “خليج العرب” بدلا من أن نسافر إليه في باريس. لكن هل ستظهر حقا في خليج العرب الأرواح الباريسية”؟
أكملت جولتي البصرية خلف التجمعات السياحية البديعة وبيني وبينها أسلاك شائكة وحواجز خرسانية مانعة.
تحسست أقدامي وتذكرت عام 1993 حين كنت أخطو هنا خطوات وراء خطوات أغوص في طين المستنقعات والرمال البيضاء الناصعة.
اليوم لا أستطيع أن أتجاوز خط الطريق أو أمس حبة رمل في الحي اللاتيني والأبراج الشاهقة الجديدة.
ما العمل؟ كيف لي أن أحدث بياناتي؟ هل سأقف متفرجا على الطريق؟
غير بعيد تقع مقابر الألمان والإيطاليين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية.
من هذا المكان أطلق الجنود الألمان في معركة العلمين حملة دعائية لإصابة الروح المعنوية للإنجليز المحتلين لمصر.
كانت الرسالة التي أرسلها الألمان إلى الإسكندرية تقول:
“يا نساء الإسكندرية..خذن زينتكن واخترن أجمل فساتين الليل وحفلات الموسيقى والرقص والعطور….فنحن قادمون إليكن بأسرع مما تظنون”.
في معجزة حربية غير متوقعة تمكن الاحتلال الإنجليزي لمصر من طرد الألمان وردهم إلى عمق ليبيا ليتغير تاريخ العالم كله من هنا من “خليج العرب”.
“خليج العرب” بانوراما تستأهل موسوعة علمية حديثة عما شهده المكان في القرن الأخير، وعما يشهده من تعديل وتبديل في آخر عشر سنوات.
🔹🔹🔹
في الختام اسمحوا لي أن أعبر عن شيء في نفسي أتردد منذ فترة في أن أفاتحكم فيه .
لا يخفى عليكم أنني في الجغرافيا البشرية أنتمي إلى مدرسة التحليل اليساري، والجغرافي اليساري لا يستطيع أن يكتب كل شيء عن خليج العرب من واقع مفاهيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وحقوق طبقات المجتمع.
أنا أعرف أيها الأصدقاء أنكم مللتم مقالاتي المكرورة عن “الحق في المكان” وضرورة فتح البحر لكل طبقات الشعب وليس للأثرياء فقط.
ولذلك لا أمانع أيها الأصدقاء من أن يمنحني المسؤولون في خليج العرب (الجديد) فرصة إقام مجانية لثلاثة شهور للكتابة من زاوية برجوازية عن المكان.
تكفيني ثلاثة أشهر في “الحي اللاتيني” وأبراج العلمين الجديدة وفي الفيلات الفاخرة على البحر، أعدكم أن أغوص في البرجوازية حتى أتشبع منها وأفهم وأتبحر وأجرب كل شيء…كي أكون قادرا على كتابة مقالات جديدة متوازنة.
وطبعا هذه الشهور الثلاثة مش عشاني خالص، دي عشان مصر …وجغرافية مصر!
Discussion about this post