“حتى لا يطير الحمام”
قصة قصيرة
بقلم … خالد عبد المنصف
إنتهى إلى مسامعي صوت”عبدالوهاب”عبر الراديو طرياً تكسوه نداوة وسكينة وجلال..
“أحب عيشة الحرية زي الطيور بين الأغصان”
فيقفز إلى مخيلتي شلال صور تترى من شمس الضحى يندلق نورها مداعباً قمم أعواد الذرة وسطح مياه مراوٍ تنطلق في تؤدة،ثرثرة عصافير تحط فوق أغصان شجر البونسيانا وأسراب نحل تتناوش تيجان الورد البلدي،يمام يحتضن السماء بجناحات تدفع الهواء فيتوارى وراء نتف السحاب المتناثر على زرقة السماء،أشجار توت وجميزة عتيقة تحمل ذكريات من رحلوا،أشجار سرو وجزورين وكافور وصفصاف يرخي أطراف شعوره تقبل مياه الترعة،ساقية يدور حولها ثور وكلب قد تكوم في ظل توتة وأنا أعدو فوق السكك الترابية كجواد يسابق الريح خلف فراشات ملونة،بكارة الطبيعة تغسل ذلك الصخب الذي خلفته زحمة المدن والقطارات وأبواق السيارات التي لا تكف عن الزعيق والمناوشات.
أفقت من نشوتي على صوت أبي زاعقاً:
_همي يا ولية إنتي لسه قدام الفرن كلها ساعة زمن وعبد الرحمن يكون في محطة القطر كده حيتأخر.
_خلاص يا أخويا خلصت أهوه.
_البت سعدية دست الحمام في برام الرز؟!
أجابت أمي في غيظ:
_ما إنت عارف إبنك طالع زي أمه يحب الحمام لكن ميحبش يشوفه مدبوح ولا يحب أكله.
_إيوه يا حنينة إنت وسي عبد الرحمن دلعتي فيه لحد ما شنبه خط وقال لسه ميحبش منظر الحمام وهوه مدبوح هو ربنا خلق الحمام غير عشان ناكله يا عالم يا بقر.
كان اليوم موعد سفري للجامعة،أخذت أول قطار مع بكور الصباح الندي يرن في أذني صوت “عبد الوهاب”
“يا وابور قولي رايح على فين يا وابور قولي وسافرت منين”
السفر إلى القاهرة قطعة من العذاب حيث تنتظرني خيمة السحب الداكنة الكالحة جاثمة على صدر القاهرة ولزوجة العرق الذي ينز كالمطر و دخان السيارات الذي يتصاعد متقاطعا مع وهج الشمس الحارقة التي توّج تفترش الميادين بعد أن تنقشع السحب الداكنة وكأنهما يتناوبان جلد المارة ورواد زنازين الباصات المحشورين كأعواد علب الكبريت توشك أن تشتعل بفعل الحرارة واحتكاك الأجساد المنهكة.
أفتح باب الشقة،أضع الحقيبة العامرة بالزاد والزواد الفلاحي من خير قريتنا والذي أعدته أمي وأختي سعدية،أهرع ناحية الحمّام لأستحم وأغسل ما علق بي من غبار السفر وثرثرة القطارات.
يأتيني صوت “عبد الوهاب”
“المية تروي العطشان وتطفي نار الحران”
في العصرية أصعد كعادتي على السطح أتابع غروب الشمس تجر أذيال آخر ما تبقى من النهار قبل أن تحل محلها خيمة الليل.
تحجب البنايات والعمارات الشاهقة رؤية الأفق البعيد،أتأمل أسطح المنازل فأرى أبراج الحمام وقد غزت القاهرة،فهمت لحظتئذٍ لماذا يختفي الحمام من سماء المدينة يوما بعد يوم.
باغتني سؤال منطقي طفا على سطح تأملي وأفكاري:
لماذا يرضخ الحمام ويرضى بأسر الأبراج والأقفاص بينما اليمام لم يستطع أحد أن يروضه؟!
اليمام يعيش حرا يأبي أن تهان كرامته،يسبح في زرقة السماء بلا قيود،يحط على أسوار شرفتنا،يراقبنا عبر الشبابيك والنوافذ ونحن نتابعه من وراء أسلاك الشبابيك كأسرى!
وصوت عبد الوهاب يأتي من بعيد:
“أحب عيشة الحرية زي الطيور بين الأغصان”
تذكرت برج الحمام الذي بناه أبي بيديه فوق سطح دارنا،أبي يحب أكل الحمام وأنا وأمي _الرقيقة كاليمام_نكره رؤية دم الحمام مسفوحا بلا جريرة،حكت لي أمي أنها بعد زواجها من أبي وقد علمت أن والدي يحب أكل الحمام قد حلف يمينا ألا تذبح حماما قط فوافق أبي على مضض.
همست لنفسي:
_”جريمة أن يؤسر الحمام في دارنا”
طقت في رأسي فكرة وعزمت على العودة لقريتنا في أول قطار مع غبشة الفجر فلم يغمض جفني حتى وضعت قدمي في عربة القطار.
“عبد الوهاب” يلاحقني:
“يا وابور قولي رايح على فين يا وابور قولي وسافرت منين”
أسابق الزمن والمسافات،وطئت قدمي تراب سكة قريتنا أسرعت يتناثر من ورائي الغبار،اقتربت من دارنا فوجدت أبي يجلس على المصطبة في ظل تكعيبة العنب وقد تصاعدت سحب دخان سيجارته اللف،وأمي تزغط ذكر البط،ما إن رأوني حتى علت الدهشة وجهيهما،إنطلقت كالسهم داخل الدار دون أن أتكلم،أبي يناديني وأمي تجري خلفي.
وقعت عيني على الفأس بجوار السلم المؤدي للسطح،حملتها بين يدي،وأمي من خلفي تصرخ وتولول:
_”إلحق يا عبده إبنك،إلحق يا عبده إبنك،ماسك الفاس شوف حيقتل مين؟!يا مرارك يا فتحية”
يجري أبي فزعا وقد تعثر في درج السلم.
صعدت على السطح وصوت عبد الوهاب يرن في أذني :
“أحب عيشة الحرية زي الطيور بين الأغصان”
فتحت باب البرج أهش الحمام فينطلق أفواجا ناحية اليمام فاردا جناحاته،تستقبله أسراب اليمام كمن أخذ إفراج.
صعدت أعلى البرج أرفع فأسي فتهوي بكل قوتي أدك جدران البرج!
ينظر أبي مصدوما وقد أكل الغيظ عقله،تندفع الدماء في أوردته تكاد تنفجر أراها في وهج وجهه، وأمي تكتم ضحكتها وعبد الوهاب يعني:
“أحب عيشة الحرية زي الطيور بين الأغصان”.
Discussion about this post