بقلم دكتور… عاطف معتمد
قطعت أول أمس ساحل الإسكندرية من المعمورة شرقا إلى رأس التين غربا. البحر كما هو معلوم للجميع أسير ومحاصر ومختف وراء حواجز خرسانية أقيمت عليها مطاعم ومقاه يدخلها فقط القادرون على الإنفاق.
في هذه المسافة الطويلة على ساحل المدينة تختفي أية ديناميكية بيئية تقريبا. لا يمكن للإنسان أن يتفاعل مع البحر أو يستلهم منه أفكارا فلسفية تلخص حياته.
بعد يوليه 1952 صور نجيب محفوظ التغير الدراماتيكي الذي طرأ على حياة سياسي وفدي سابق تم طرده من منصبه وهام على وجهه بين القاهرة والإسكندرية. وجاءت رحلة الضياع هذه في رواية “السمان والخريف” الصادرة في 1962.
في عمارة متوسطة الارتفاع يجلس البطل الشريد متابعا وقوع طيور السمان في شباك نصبها الصيادون الهواة على البحر، تهوي طيور السمان فجأة بعد رحلة شاقة وطويلة من بطولات خيالية.
يرى البطل نفسه وقد وقع في الفخ بعد رحلة طويلة وبكل سهولة في شبكة اعترضت طريقه في موسم الخريف.
لو قرأ أحد الشباب اليوم هذه الرواية وحاول أن يجد لها نظيرا عل ساحل الإسكندرية فلن يعثر على أي موضع وحيد للصورة التي رسمها محفوظ.
لا يوجد على ساحل الإسكندرية اليوم شباك ولا سمان ولا طيور ولا خريف، بل حواجز خرسانية وكافيهات ومطاعم تحمل أسماء أجنبية.
“السمان والخريف” تنتمي إذن إلى صنف الروايات التي تمثل توثيقا لأوضاع بيئية انقرضت أو تكاد في حياة الريف والمدينة.
لم يكن في خلد نجيب محفوظ طبعا أن المجاز في السمان والخريف لن يصبح مفهوما في إسكندرية عام 2023 مقارنة بما كانت عليه في 1962.
وكما كتبت هنا في عديد من مقالاتي عن الإسكندرية ونهر النيل، يؤثر غياب الطبيعة والديناميكية عن رؤية الإنسان المصري تأثيرا سلبيا يجعله متواضع الأفق والخيال.
تواضع الأفق والخيال لا يقصد به الفنون والآداب والقصص والروايات، إذ المعروف أن الاختراعات العلمية الكبرى هي ابنة تفاعل الإنسان مع الطبيعة أيضا.
هناك فوائد عظيمة أخرى من انكشاف البحر والصحراء والحدائق والنباتات والبحيرات أمام الإنسان، أولها أنها تربطه بهذه الأرض وتجعله في “انتماء” عضوي معها وبها ولها وفيها ومنها.
لقد انتقل نهر النيل منذ ستينيات القرن العشرين ليصبح ترعة كبيرة محاطة بجسور ومخندق بنواد ومطاعم وكافيهات حصرية على الأثرياء والهيئات السيادية ولم يعد في الإمكان التفاعل مع المكان النهري بأي حال.
إن رواية السمان والخريف لا تخص فقط حالة سياسي وفدي أطاحت به يوليه 1952 بل تقدم لنا مثالا أيضا على فكرة “فلسفة البيئة” وعن “الديناميكية والاستاتيكية” في الأدب والسياسة وجغرافية مصر.
Discussion about this post