بقلم … موسى غافل
الجزء الثاني
إنها أحياناً لا تكاد أن تتعرف على أُحاديات مكونات قلبها الذي وزعته نواةً نواة، وفسيلةً فسيلة، ربما بسبب جنوح العمر ، هذا وارد، ربما فاض إناؤُها بوفرة أعداد فسائلها ومدياتها التي احَتوَتْ تلك المرابع العديدة المترامية. هذا هو الذي يشعرها بأن قلبَها تَحَوّرَ إلى عطرٍ من الحبِّ والإنجاب. ربما عوامل الزمن والافتراق ، وومضات سفوح الذاكرة. وما أعذب غفرانها لمن يمازحُها مزاح المحبين ، بحيث لو رغبت فسيلةٌ من صلبها في الرحيل، وتمازحها :
ـ أيتها الجدة .. حان الوقت الذي أقول فيه وداعاً .
فتقول لها هامسة باسمة :
ـ وداعك يا بنيتي سيُحَتِّم عليّ أن أُسعد.
فتقول الفسيلة بعجب وهي تتمايل غنجاً :
ـ أما يحزنك رحيلي؟
فتقول الجدة :
ـ هكذا هي الحياة يا بنيتي، الرحيل إلى حيث العطاء. ستعثرين على سعادة من نوع آخر .
ـ لكنني يا جدتي .. ما زلت لم أبلغ سن الرشد بعد .. أتعرفينني ابنة من ؟
حينذاك تلجأ الجدة إلى النبش بكوابح إخفاقاتها، وبعناء.. تحاول استدراج ذاكرتها، فتصاب بالإخفاق، ثم تستكين إلى ما هو أشبه بهباء مسكيٍّ من الابتسامة والخجل . أو محاولة لإبداء عذر عن خيبتها :
ـ أنا يا بُنَيَّتي نَثَرْت النوى والفسائل . فأمك حتماً من فسائلي أو نوى عذوقي إذن، أيتها الفسيلة الرشيقة الحلوة ، من الكرم أن تَغفري إخفاق ذاكرة الجدة المديدة العمر، الواهنة الذاكرة. لكنني أشم في الكل أريجاً ربيعياً، حيث كنت بهية بما رفدتُ وأفدتُ وأذكيتُ، وأنشأتُ مستعمراتً من القلوب ذات المشاعر الشذية، وإن قلبي أحسه يتدفق عبر نبضِكن .
* * *
كانت النخلة الجدة، دائماً تهيم في عالم من التأمل، عالم مزدحم بالواحات والجنائن ، عالم جوَّال في نبش الذكريات الغابرة وسنين العز . وما أُطْرِيَتْ به من إعجاب. والآن .. لا ترهقها قناعتُها بأنها ليست إلاّ زائرة سريعة الرحيل، أشبه بنسيمٍ سرعان ما يعود إلى مجرد ذكرى عابرة لا تترك سوى طيفَ شوقٍ وإطراءٍ حميد . وعجالة استراحةٍ في عالم عِطْرِ عذوقها.
تؤنسها، وتحرجها، مداعبات الفسائل . إنها تحب الجميع . ولكن الذاكرة أحياناً لا تُسْعِفها .
**
خاتمة المطاف… وقف البستاني وولده ، تطلع إلى الجذع المديد، بعينين مُتبحِّرتين، واطرق يفكر.
حزرت الجدة النخلة :
ـ نظرات الرجل مريبة !
نادَمَ البستاني وَلَدَه :
ـ إنها شاهقة جداً ومضنية التسلق، وما دمنا نحتاج إلى جسر فجذعَها يكفي، سنقطعه إلى أجزاء ونرصفِها بعضا لبعض كي ننشئ بستاناً عبر الجهة المقابلة.
ابتسمت الجدة بحزن، اهتزت سعفاتُها كجناح طيرٍ يقاوم ما يُبَيَّت له، وسرحت بنظرها عبر المسافات الزاهية الخضرة، وقالت لنفسها :
ـ ما أعطيته يكفي، وقد تطوّح بي الريح، فأنا ما عدت مُنشدَّة القوام كما كنت سابقاً، وأكاد أن أكون خاوية. وآنذاك ، ستكون وقعتي مهينة.
لا أريد هزيمة من هذا النوع، وما دامت المسألة تتعلق بإنشاء بستان، سيسعدني جدا أن أكون جسراً .
بقلم موسى غافل
Discussion about this post