قل لي يا حلو .. منين الله جابك ؟
بقلم دكتور… عاطف معتمد
سمعت أغنية ناظم الغزالي “قل لي يا حلو ” عشرات المرات، ومع ذلك بقي فيها بيت دوخني ولم أفهم معناه. وظللت على هذا الحال سنوات طوال.
القصيدة التي يشدوها ناظم الغزالي مستوحاة من موال عراقي قديم يستمد أبياته من تراث شعري عريق يعود لمئات السنين الماضية.
الأغنية/القصيدة التي تجدها في التعليق الأول هي في الحقيقة معزوفة من الشجن تصور سهما من لحظِ الحبيب أصاب الضحية فأسقطه مقتولا.
من سوء حظ القتيل أنه لم يمت من فور اللحظ الساهم، فظل يعاني بين الحياة والموت، ومن ثم طلب القتيل من قاتله أن يجهز عليه فأنشد يقول:
🔹يا قاتلي باللحظ أول مرةٍ
أجهز بثانيةٍ على المقتولِ
ويبدو أن ثقافة المذهب الشيعي المنتشرة في جغرافية العراق وشرق الجزيرة العربية أثرت على صياغة بعض أبيات القصيدةـ، حتى أن الصريع يطلب من قاتله أن يمعن في التقتيل والتمثيل:
🔹مَثّـِلْ ..فديتك بي ولو بك مثلوا
شمس الضحى لم أرض بالتمثيل
كما ترى، يتلاعب الشاعر في هذا البيت باللغة العربية في أبلغ تجلياتها، فالمحب المغدور يرضى بالتمثيل والتقتيل، دون أن يرضى أن يشبه أحدهم الحبيب القاتل بشمس الضحى، لأن فتنته أبلغ من أية صورة.
الضحية هنا في حالة من التلاشي والتشظي والتماهي، يرضى بالقتل ويلهج بذكر محاسن الحبيب القاتل، محاسنه التي تشبه صفحات كتاب مقدس، وكأنها آيات منزلة من السماء تستحق الترتيل والتلاوة في الإنجيل، فيقسم لنا الشاعر أنه يتصفح وجه الحبيب منذ أن كان صغير السن والعهد:
🔹أتلو صحائف وجنتيك وأنت في
سكر الصبا لم تدر بالإنجيل.
العبارة الأخيرة في هذا البيت تصلح للألعاب اللغوية أيضا، فنفهم منها أن الشاعر يقسم بالإنجيل مؤكدا صدق حبه، ونفهم منها أيضا أن ضحيتنا كان غارقا في العشق مذ كان المحبوب يمرح في سكر اللهو واللعب قبل أن يبلغ سن الوعي ومعرفة الصلاة والإنجيل.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعاقب فيها الموال العراقي على الجمع بين الإسلام (السني والشيعي) مع المسيحية بمظاهرها من إنجيل وأديرة رهبان.
أنت هنا تتحدث عن أرض العراق التي كانت مهدا لكل شيء، تماما كما نعتقد في أرض مصر عبر العصور.
ثم يصل ناظم الغزالي إلى البيت الذي لم أكن أفهم معناه:
🔹أفهل نظمت لآلئً من أدمعي
سمطين حول رضابك المعسول
الشطر الأول ينطق بلاغة دون حاجة إلى تفسير، فالمحبوب القتيل يدعو القاتل لأن ينظم حبات دموعه التي تشبه اللؤلؤ.
لكن ما معنى الشطر الثاني من البيت؟ فما هو “السمط” الذي سينظمه القاتل من أدمع الضحية؟
أبقيت السؤال معلقا سنوات طويلة حتى تكشف معناه في الأشهر الأخيرة.
في واحدة من كراسات موسوعة “الحضارة العربية والإسلامية” التي صدرت في تونس قبل 35 سنة مضت.
الكراسة التي تجدون غلافها في أول تعليق لا تتجاوز 60 صفحة، كتبها د.شكري عياد في تبسيط للقارئ العام عن مفهوم “النقد والبلاغة”.
في هذه الكراسة يدهشنا شكري عياد بأن النقد الذي يظنه المعاصرون فنا حديثا وعملا أكاديميا إنما كان منتشرا منذ العصر الجاهلي، حين كانت أسواق العرب قبل الإسلام، ومنها سوق عكاظ، منتدى كبيرا للشعر: تلاوة ونقدا.
هناك بعض أبيات القصائد التي منحها الجمهور العربي في مكة في العصر الجاهلي لقب “سِمط الدهر” أي العقد النادر المنظوم من جواهر الشعر في كل الأزمان.
وحين جاء أحدهم في العام التالي ببيت شعر لا يقل جمالا عن بيت العام الماضي لم يحذفوا لقب “سمط الدهر” بل أقروا الاثنين معا ومنحوهما معا مسمى “سِمطا الدهر”.
على هذا النحو وجدت ضالتي متأخرا في معنى “سِمط”، وأمنية الشاعر أن ينظم الجاني من دموعه “سمطين” أي عقدين من لؤلؤ يتحلى بهما.
يتبقى أن نفكر في أن القتيل الضحية دعا الحبيب القاتل في شطر البيت أن يضع السمطين حول رضابه المعسول.
تعطينا القواميس المعاصرة معاني مباشرة لكلمة “رضاب” والتي تعنى “رغوة العسل” أو “ريق” الفم حين يرتشفه العاشقون في موجات القبل.
الشاعر هنا لا يدعو إلى أن يتخذ الجاني دموعه في سمطين من لؤلؤ حول الفم المعسول بالمعنى الحرفي، بل على الأرجح يدعوه لأن يزين بهما العنق والنحر النحيل.
وحتى يخرجنا الشاعر من هذا المشهد الحزين يهدينا بيتا واضحا لا يحتاج إلى قواميس، بيتا محررا من كل ألغاز لغوية:
🔹أشكو إلى عينيك من سقمي بها
شكوى عليلٍ في الهوى لعليلِ
تنتهي القصيدة ببعض أبيات في الغزل قبل أن يحول ناظم الغزالي القصيدة في نقلة مفاجئة من موال حزين إلى موسيقى حديثة راقصة تخفف من وطأة المشهد.، وذلك حين يسأل الضحية، بمرح مفتعل ورقص أهوج،:
“🔹قل لي يا حلو ..منين الله جابك ؟!”
هذا سؤال بالغ الذكاء، لأننا في الحقيقة لا نعرف من أي موقع في الأرض ولا في السماء أتى الأحبة الجناة:
من وديان الجن والعفاريت، أم من روضات الملائكة؟!
Discussion about this post