بقلم دكتور … عاطف معتمد
ثلاثون عاما من الـ “مافيش فايدة” !
يحذرنا الحكماء من الإفراط في الإنصات أو القراءة لأولئك الذين يسردون أحاديث الذكريات بدلا من رؤى المستقبل. ولكن اسمحوا لي أن أقص طرفا من الذكريات رغم هذا التحذير، وأعدكم ألا أكثر من ذلك في المستقبل.
قبل ثلاثين سنة عاد أحد زملائي النابهين شاردا من عمله في الماجستير في الساحل الشمالي عند رأس الحكمة. كان يدرس علاقة الأمواج والمد والجزر وتطور معالم السواحل من نحت وإرساب على الشواطئ والسواحل.
ذهب زميلي إلى معهد لعلوم البحار وحماية الشواطئ في الإسكندرية للحصول على بيانات أجراها المركز عن المنطقة فاعتذروا له. ولم تشفع له الخطابات الرسمية الممهورة بخاتم النسر في أنه معيد في الجامعة وأن رسالته ستودع في مكتبة الجامعة للباحثين المصريين.
وقد عرف زميلي أن البيانات عن هذا الموقع بالتحديد متوفرة لدى المعهد ولم يفهم لماذا لا يعطوه نسخة منها، ولم يصدق ما قاله له البعض من أن قرية سياحية ستؤسس في المكان وأن البيانات ستذهب لمن يدفع وليس لمن يدرس.
وحين قص صاحبنا قصته على مشرف الرسالة أجابه على الفور “لا بأس ياولدي ..اكتب أنك لم تعثر على البيانات في رأس الحكمة، ولا تنسى أنه من الحكمة ألا تصاب بالإحباط والتعثر لعدم وفرة بيانات..اكمل إلى الفصل التالي”.
ولم يقف المشرف عند هذه النصيحة الحكيمة بل هون على تلميذه مازحا بالقول “هانعمل إيه يا ابني ..احنا في بلد ما فيش فايدة”.
في سن الشباب والطاقة لم يكن زميلي العزيز يؤمن بأنه “مافيش فايدة” أخذ يطالع كتابا وصل للتو لمكتبة هيئة المساحة الجيولوجية لجغرافي شهير من جامعة أكسفورد اسمه “أندريه جاودي Andrew Goudie” عنوانه: “كيف تقوم بدراسة ميدانية بنفسك تعوض فيها نقص البيانات”.
في هذا الكتاب فصل كامل عن قياس الأمواج والتيارات البحرية بأساليب بدائية تعويضا لعدم وفرة البيانات.
ذهب زميلي إلى نجار وحداد في الحي الشعبي الذي يسكن فيه في مصر عتيقة بجنوب القاهرة، صمم له أدوات بدائية من قوائم خشبية وحديدية لقياس الأمواج وطلب مني أن أرافقه إلى رأس الحكمة.
سافرنا سويا في عام 1993 وهناك قمنا بغرس بعض الأسياخ الحديدية على الشاطئ وتوغل هو بين الأمواج بالقائم الخشبي المدرج إلى أمتار وسنتميرات، وأخذنا نقيس ارتفاع الموجة وتكراريتها وسرعتها : هو في خضم الموج المتكسر وأنا على الشاطئ معي دفتر وساعة توقف وبوصلة وجهاز قياس زوايا انحدار أسجل من البر ما يمليه بصوته الجهور من بين الأمواج الصاخبة.
بقينا على هذه الحالة أربعة أيام من الصباح إلى غروب الشمس، وقد نال منه التعب والإجهاد لكنه كان في غاية السعادة. أكملنا بعض أعمال ميدانية أخرى من جمع عينات من الرمال البطروخية وتفقدنا أجزاء من الساحل القديم وبعض “السواني” أي الآبار الشهيرة عند قبائل أولاد علي، ثم عدنا إلى القاهرة.
في القاهرة لم يلق زميلي العزيز سوى عبارة “مافيش فايدة”من الأكبر سنا ومن الزملاء المخضرمين السابقين في عالم الدراسات العليا، بل وشاهد العبارة تنطق من عين المشرف الذي كان يحبه ولكنه يشفق عليه من أحلامه!
السنوات تمر سريعا، كبر كل أبطال هذه القصة، المناصرون لمبدأ ما فيش فايدة أصبحوا كهولا ويسرفون في مافيش فايدة بشعرهم الأشيب. زميلي الشاب أصبح شيخا، يدرك أيضا كل شيء، يعرف أكثر من غيره أنهم معذورون في ما ذهبوا إليه، لكنه لم يفقد العمل والمحاولة ويرفض رفض العقيدة أن يتردد على لسانه العبارة الشهيرة الأثيرة الوثيرة “مافيش فايدة”.
كلما أصابني بعض إحباط اتصلت به أو كتبت إليه أو ذهبت إلى لقياه، صحيح أن ملامحه ذبلت بحكم السنين، تهدج صوته قليلا، لكنه ما زال قادرا على إسعادي وإثارة البهجة في نفسي بتلك الابتسامة التي تعرف أنه ليس من الحكمة أن نقول “مافيش فايدة”.
Discussion about this post