حكاية رامي ورباعيات الخيام
بين البداية والنهاية
بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
بالأمس ٥يونيو كانت ذكرى رحيل شاعر الشباب أحمد رامى، ومناسبة لقب شاعر الشباب جاءت من نشر أشعاره في العشرينيات بمجلة تدعي الشباب هي التى اكسبته هذا اللقب لأنه كان يخصها ببعض أشعار فلقبته بشاعر الشباب ارتباطا باسمها فقط.ولا ينفك ذكر أحمد رامى عن ذكر القصيدة الشهيرة “رباعيات الخيام” فهو ترجمها، وقد كانت المرة الأولى التى أسمع فيها رباعيات الخيام بصوت أم كلثوم من محطتها الإذاعية الشهيرة،وإذا بها فى المقطع الذى يقول:
“فكم توالى الليل بعد النهار
وطال بالأنجم هذا المدار
فامْـــشِ الهُـوَيْــــنا إنَّ هـــذا الثَـرى
مـــن أعْيُـــنٍ ســـاحِــرَة الاِحْــوِرار”
وللحق لم أفهم معنى البيت الأخير للوهلة الأولى وقد كنت وقتها أبدأ دراستى بدار العلوم،وتمنيت لو أعادت غناء البيت كعادتها لأتمكن من سماع الكلمات جيدا وفهمها،المثير فى الأمر أن من كانوا يستمعون لها فى المسرح راحوا فى عاصفة من التصفيق لكلمات لم أتبينها جيدا،وكان الملحن العبقرى رياض السنباطى واعيا للمعنى فجعل جملته الموسيقية رتيبة بطيئة تنطق كل كلمة وحدها فى نغمة هادئة تساعد على متابعة البيت كله.وكعادتها أيضا استجابت لتصفيق الحضور وأعادت أداء البيت أكثر من مرة،وفى كل مرة يزداد التصفيق وطلب إعادة البيت.
حتى استوعبت البيت وبلاغته ومعناه الفلسفى لقضية الحياة والموت ومصير الإنسان كجثة تتحول إلى رماد وتراب يدوسه الناس وقد كانت صاحباته يمتلكن أعينا ساحرة تثير جنون الرجال،وها هى قد صارت ترابا يدوسه الناس ولايدرون كم من متغزل هاموا وتشببوا بصاحبات تلك العيون ساحرة الإحورار،والاحورار هو شدة بياض البياض وشدة سواد السواد فى العينين طبقا للمعنى اللغوى،وفيه قيل أجمل أبيات الشعر تغزلا فى العيون على لسان جرير:
إن العيون التى فى طرفها حَوَر
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لاحراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
هكذا كانت علاقتى الأولى مع رباعيات الخيام وظللت سنوات على مظنة أنها أبيات مكتوبة خصيصا لأم كلثوم كى تشدو بها،وما لبثت بعد سماعى لها كاملة وتقلب العقل مع تقلباتها والقلب مع غرابة شخصية كاتبها ـ أن قرأت عنها وعن مؤلفها المنسوبة إليه لا مترجمها الذى ألبسها هذا الثوب القشيب على نغمات السنباطى وحنجرة أم كلثوم،وجعلوا منها واحدة من اجمل قصائد الشعر المغناة طوال زمن الغناء العربى.وبالطبع لست فى مجال الحديث عن الأغنية إنما هى أبيات تلك القصيدة التى هوجم صاحبها الفارسى عمر الخيام واختلفت حوله الآراء بشطط وتباين واسع مابين واصف له بالتصوف والزهد وواصف إياه بالعهر والفسق بل الزندقة.
وما غنته أم كلثوم ليس النص الكامل لتلك الرباعيات بل هي مجرد جزء يسير، ولا بد أن نذكر هنا أن الاختيارات الكلثومية كانت دقيقة للغاية حيث استبعدت كل تلك الرباعيات التي تحضّ صراحة على شرب الخمر وعيش المرء كما يحلو له، مكتفية برباعيات تدعو في أقصى “تهتّكها” إلى السهر ناهيك بالعديد من الرباعيات التي تخاطب العناية الإلهية مباشرة. في اختصار، بعد الرقابة الأولى التي كان أحمد رامي قد مارسها بنفسه على أشعار الخيام، مارست أم كلثوم رقابة ثانية بحيث تحولت الأشعار “الماجنة” و”المتهتكة” في بعض الأحيان، إلى قصيدة تصوّفية إلهية، لا تخلو في بعض الأحيان من تساؤلات قد يمكن وصفها بـ”الوجودية”، لكنها تتسم بحياء من شاعر بالذنب وخائف من الرب.
بضعة أبيات مختارة بعناية، من بين مئة وسبعين رباعية خيّامية هي الترجمة العربية التي قام بها أحمد رامي مباشرة عن الفارسية التي تعلمها في باريس موفداً من قبل الحكومة المصرية حيث يروي بنفسه كيف اكتشف عام 1922 نسخة من رباعيات الخيام قام بنشرها المستشرق الفرنسي “نيقولا” عن نسخة طهران عام 1867، حيث يقول:”فانقطعت لقراءتها وتوفّرت على دراستها حتى إذا انتهيت منها دار في خلدي أن أنقلها عن الفارسية إلى الشعر العربي رباعيات كما نظمها الخيام، وشجعني على ذلك افتقار اللغة العربية، إلى ذلك العهد إلى هذه الرباعيات منقولة عن اللغة الفارسية”. وبعد ذلك يحكي رامي كيف أنه قبل إقدامه على ذلك العمل راجع نسخ الرباعيات الخطية في دار الكتب الأهلية بباريس “وسافرت في مستهل عام 1923 إلى برلين حيث راجعت النسخ الخطية المحفوظة في مكتبتها الجامعة”. بعد ذلك انصرف خلال العام 1924 إلى ترجمة مختارات من الرباعيات نشرت للمرة الأولى في صيف ذلك العام”.
ويذكر رامى أن أقدم مخطوط لها كتب بعد موت الخيام بنحو 350 عاماً.
وتعتبر ترجمة أحمد صادق النجفي الترجمة الأدقّ عن الأصل، الى درجة أنه وضع النسخة الفارسيّة إلى جانب العربيّة إمعاناً في الدقة، وقد ضحّى فيها بهيكليّة القصيدة الرباعيّة وبجرسها الغنائيّ في سبيل نقل صدقيّة الكلمات الأصليّة. قالوا ان ترجمته للرباعيات جاءت في القمة، غير أنها لم تنل ما تستحقه من الشهرة. ونستطيع ان نفهم لماذا، من الحكاية التالية التي سردها الباحث التراثي الدكتور جليل العطية ونقلها الكاتب خالد القشطيني وتقول ان أحمد الصافي النجفي أمضى معظم حياته في لبنان. وفيما كان يتجول كعادته في شوارع بيروت مر بأحد ملاهيها فسمع إحدى المطربات تغني شيئاً من ترجمته للرباعيات. واستدرجه ذلك لدخول الملهى والاستماع اليها على التمام. لم يكن الشاعر النجفي ممن اعتادوا ارتياد الكباريهات والسينمات، فاشترى بطاقة ودخل، وراعه ما رأى من جو الملاهي الشرقية من ضجيج الزبائن السكارى وهم يغرقون بالخمرة ويراودون الراقصات والغانيات، غير عابئين بما كانت تغنيه المطربة او كانت تقوله من شعر. امتلكه الغضب والامتعاض فترك الملهى ثائراً ولم يهدأ له عصب حتى حل صباح اليوم التالي فراح يطوف مكتبات بيروت يجمع الكتب التي نشرها وتضمنت ترجمته لرباعيات الخيام، وجلس في زاوية من غرفته وامتشق القلم لينفس عن شجنه وغيظه بهذه الابيات:
“رباعيات الخيام كم جلبت/ الى ضعاف الحجى بلاياها/ ترجمتها للفنون خالصة/ تسكر قراءها بمغزاها/ إذا بها في الحانات ساكنة/ تصبغ أوراقها حمياها/ كأنها من قتال أعدائها/ عادت تريني دماء قتلاها/ يشرب هذا وذاك يقرأها/ فيعبس الفن في محياها/ أغضبها فعلهم فلو نطقت/ لسبّهم لفظها ومعناها”.
إن الرباعيات التى ترجمها رامى بدقة ورقة وصاغها شعرا ببراعة وعذوبة واختارت منها أم كلثوم ماغنته بشفافية وذائقة عالية وتحفظ دينى وأخلاقى محمود ـ إنما تجسد فى رأيى إنسانا يعيش حياته بمراحل ثلاثة تأخذه قوة الشباب واندفاعه وبحثه عن المتعة فى أولى مراحلها ،تحثه على الاستمتاع وأخذ نصيبه من الحياة الدنيا قبل أن يمضى الشباب،وعن تلك المعانى كان الجزء الأول من الرباعيات حيث يقول الخيام بترجمة رامى:
سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من الغيب غفاة البشر
هبوا املأوا كأس المنى
قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُ الَقَدر
لا تشغل البال بماضي الزمان
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس في طبع الليالي الأمان
غَدٌ بِظَهْرِ الغيب واليومُ لي
وكمْ يَخيبُ الظَنُ في المُقْبِلِ
ولَسْتُ بالغافل حتى أرى
جَمال دُنيايَ ولا أجتلي
القلبُ قد أضْناه عِشْق الجَمال
والصَدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال
يا ربِ هل يُرْضيكَ هذا الظَمأ
والماءُ يَنْسابُ أمامي الزُلال
أولى بهذا القلبِ أن يَخْفِقا
وفي ضِرامِ الحُبِّ أنْ يُحرَقا
ما أضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي
من غير أن أهْوى وأن أعْشَقا
أفِقْ خَفيفَ الظِلِ هذا السَحَر
نادى دَعِ النومَ وناغِ الوَتَر
فما أطالَ النومُ عُمرأ
ولا قَصَرَ في الأعمارَ طولُ السَهَر
فكم تَوالى الليل بعد النهار
وطال بالأنجم هذا المدار
فامْشِ الهُوَيْنا إنَّ هذا الثَرى
من أعْيُنٍ ساحِرَةِ الاِحْوِرار
لا توحِشِ النَفْسَ بخوف الظُنون
واغْنَمْ من الحاضر أمْنَ اليقين
فقد تَساوى في الثَرى راحلٌ غداً
وماضٍ من أُلوفِ السِنين
أطفئ لَظى القلبِ بشَهْدِ الرِضاب
فإنما الأيام مِثل السَحاب
وعَيْشُنا طَيفُ خيالٍ فَنَلْ
حَظَكَ منه قبل فَوتِ الشباب
****
ثم تأخذ لغة التعقل والتفكر والوقوف مع النفس مرحلة ثانية من القصيدة ومن ذلك الشاب الذى صار رجلا يراجع نفسه ويراودها عن التأنى والتذكر والتفكّر،حيث يقول:
لبست ثوب العيش لم اُسْتَشَرْ
وحِرتُ فيه بين شتى الفِكر
وسوف انضو الثوب عني ولم
أُدْرِكْ لماذا جِئْتُ أين المفر
يا من يِحارُ الفَهمُ في قُدرَتِك
وتطلبُ النفسُ حِمى طاعتك
أسْكَرَني الإثم ولكنني
صَحَوْتُ بالآمال في رَحمَتِك
********
وما تلبث وقفته مع النفس وهو يوشك على الوداع أن تعود به النفس إلى رحاب خالقها تستميحه عذرا وتسأله توبة وترجوه غفرانا لتختتم الرباعيات بأجمل ختام لإنسان عرف الحقيقة بعدما تخبط قبلها فى طلب المتعة ونسيان النهاية:
إن لم أَكُنْ أَخلصتُ في طاعتِك
فإنني أطمَعُ في رَحْمَتِك
وإنما يَشْفعُ لي أنني
قد عِشْتُ لا أُشرِكُ في وَحْدَتِك
تُخفي عن الناس سنا طَلعتِك
وكل ما في الكونِ من صَنْعَتِك
فأنت مَجْلاهُ وأنت الذي
ترى بَديعَ الصُنْعِ في آيَتِك
إن تُفْصَلُ القَطرةُ من بَحْرِها
ففي مَداهُ مُنْتَهى أَمرِها
تَقارَبَتْ يا رَبُ ما بيننا
مَسافةُ البُعْدِ على قَدرِها
يا عالمَ الأسرار عِلمَ اليَقين
وكاشِفَ الضُرِّ عن البائسين
يا قابل الأعذار عُدْنا إلى
ظِلِّكَ فاقْبَلْ تَوبَةَ التائبين
Discussion about this post