بقلم دكتور…
عاطف معتمد
بين هزيمة 67 وانتصار 73 كتب إحسان عبد القدوس قصة حملت في البداية عنوان “رصاصة واحدة في جيبي” لتعبر عن سيرة ذاتية لطالب جامعي تمزقت روحه على جبهتين: جبهة الداخل حين نال رجل سياسي فاسد من شرف حبيبته؛ وجبهة الحرب في هزيمة عام 67.
يأخذنا إحسان بلغة ناعمة رائقة في قصته المكتوبة إلى عالم رومانسي أليم، سابحا بنا بين مشاعر بطل القصة، ذلك الممزق بين خزي الانكسار ونيران الرغبة في الانتقام.
تقدم الحرب طوق نجاة لهذا الشاب الذي يفر إلى المعارك لتعلم فنون القتال على أمل العودة ليثأر لشرفه وشرف قريته الذي لوثه رئيس الجمعية الزراعية “عباس بيه”.
أما الفيلم الشهير الذي قام على هذه القصة “الرصاصة لا تزال في جيبي” فقد أخذ قصة عبد القدوس مع إعادة ترتيب الأحداث لتنطلق شرارة البطل من “الكونتيلا”.
الكونتيلا نقطة عسكرية نادرة في شرق سيناء على حدودنا مع فلسطين.
يخبرنا التاريخ أن النقطة كانت محورية وقت الاحتلال الإنجليزي لمصر الذي اتخذ من الكونتيلا نقطة مواجهة على حدود مصر الشرقية.
ارتفعت أهمية الكونتيلا بعد أن نجحت القوات العثمانية في عام 1914 (بقيادة ألمانية) في غزو سيناء وقت الحرب العالمية الأولى بهدف اقتطاعها من مصر الواقعة تحت الحماية البريطانية وتعطيل الحركة في قناة السويس.
وبعد أن قامت دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وبعد أن قام نظام ضباط يوليو 1952 بعد الإطاحة بالملك، ظلت الكونتيلا مخفرا عسكريا بين مصر والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
أفرجت الوثائق العسكرية الإسرائيلية عن بيانات صارت متاحة على الإنترنت الآن حتى أن ويكيبيديا نشرت صفحة باسم عملية الكونتيلا تلك التي سطع فيها نجم إريل شارون في أكتوبر عام 1955 متزعما قوة عسكرية إسرائيلية اقتحمت الكونتيلا وقتلت الجنود المصريين وأسر من بقوا منهم أحياء وهو ما مهد الطريق لنجاح غزو إسرائيل لسيناء خلال العدوان الثلاثي في 1956 إثر تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس.
لا يخبرنا الفيلم شيئا مما ضمته السطور السابقة، يبدأ فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” من تاريخ 5 يونيو 1967 التي اجتاحت فيه القوات الجوية الإسرائيلية نقطة الكونتيلا وقتلت جميع جنودنا ولم يتبق منهم سوى محمد المغاوري (محمود يسن في الفيلم الشهير) الذي تبدأ ملحمته من الكونتيلا.
منذ أيام الاحتلال العثماني مرورا بالاحتلال الإنجليزي لمصر كانت الكونتيلا قد اكتسبت أهميتها من ثلاثة أسباب:
🔹 وقوعها على خط الحدود مع فلسطين متحكمة في الطريق الممتد بين العقبة جنوبا ورفح شمالا. وفق القاعدة الاستراتيجية: من يتحكم في الكونتيلا يتحكم في هذا الطريق الطويل بين البحرين الأحمر والمتوسط.
🔹 تقع الكونتيلا في منطقة تقسيم المياه والأودية بين فلسطين ومصر، فهي فعليا في المنابع العليا لوادي عربة الذي يتدفق إلى فلسطين ومع ذلك تقف غير بعيد عن منابع وادي العريش الذي يتدفق إلى شمال سيناء. ومن هنا تمتعت الكونتيلا ببعض آبار المياه التي ضمنت الحياة لطرق القوافل والممرات ونقاط الحراسة العسكرية.
🔹 الكونتيلا في الأساس سهل منبسط في بطن الوادي لكن به تلان مرتفعان من يتحكم فيهما يتحكم في مراقبة الطريق والمنطقة الحدودية.
نعود إلى الفيلم فنجد محمد المغاوري (محمود يسن) في الكونتيلا قبل أن يصب نيران الطيران الإسرائيلي “غضب الله” عليهم (الكلمات التي استخدمها مغاوري في الفيلم).
“غضب الله” هو أيضا بالمناسبة الوصف الذي أطلقه التتار على أنفسهم حينما زحفوا لغزو مصر في 1260 م.
يبدأ مغاوري رحلته زحفا ولهثا في رمال سيناء في أجواء النكسة والانسحاب مصارعا الموت قبل أن ينتشله من الهلاك شيخ من بدو سيناء ويرسله إلى غزة التي كانت عامرة بالوجود المصري قبل أجواء الهزيمة.
رحلة الموت والعذاب والانكسار في الكونتيلا ستنسي محمد المغاوري هزيمته في الداخل وضياع شرف حبيبته وقريته ويعيد ترتيب أولوياته ويربط بين الحدثين.
مرحلة الكونتيلا في فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” لا تزيد عن 17 دقيقة من إجمالي 120 دقيقة بما يمثل نحو 15 % من الفيلم، ولكنها فترة كافية لتكون الوقود الذي يدفع البطل في بقية الأحداث لاسترداد شرفه على الجبهتين.
من بين أكثر من 10 آلاف اسم مكان في الصحاري المصرية يقف اسم “الكونتيلا” خالدا في الذاكرة.
الأرجح أن الاسم ليس عربيا، ولكن المعنى الطبوغرافي هو “تلال مرتفعة تشرف على أرض مستوية” فتتحقق طبيعة الانكشاف والمراقبة والحماية.
دعوني أختم بالقول إن أسماء الأماكن كالبشر، بعضها يخبو ويأفل نجمه وبعضها يبقى كالأساطير والرموز التي تشحذ الهمم وتذكرنا بمن ضحوا بأرواحهم كي يبقى الجميع.
الكونتيلا في شرق سيناء واحدة من تلك المواقع.
تحرير الأرض من الاستعمار أولى مراحل تحرير الإنسان في وطنه، محطة عبور لا غنى عنها…لكنها تبقى محطة مرور وليست محطة نهاية.
Discussion about this post