بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
يبدو أن الأهرام ستظل لغزا يعجز عن تفسيره المؤرخون والباحثون الذين ذهبت بهم كل المذاهب فى تفسير أسباب وكيفية بنائها وكيف علا بنيانها بتلك الأحجار العملاقة.بل إن مصدر الحصول على تلك الأحجار المستوية فى شكلها والمختلفة فى أحجامها وأوزانها تضاربت حوله التفسيرات.
وعلى قدر التقدم العلمى الذى نحياه ونعيشه ساعة بساعة فقد ظلت الأهرام عصية على التفسير العلمى أو المنطقى،وذهبت المذاهب المتباينة بكل من حاولوا فك الشفرة وتفسير اللغز الذى يحيط بتلك الآثار الخالدة.بل إن هذا الغموض دفع كثيرا من الباحثين للزعم بأن قدماء المصريين تفوقوا فى تقدمهم العلمى على زمننا الحاضر،والدليل آثارهم الخالدة التى ماتزال تتحدى الزمن وعوامل التعرية والتقادم.
وذهب المؤرخون قديما كل مذهب فى رؤيتهم وروايتهم للروايات الأشبه بالأساطير حول الأهرام وسبب بنائها،فتحدث المقريزى والسيوطى وهما من هما فى عالم التأريخ للأزمان الغابرة ـ تحدثا باتفاق فى المعنى واختلاف فى اللفظ عن أسباب بناء الأهرام فقالا:”..قال جماعة من أهل التاريخ :الذى بنى الأهرام سوريد بن سلهوق بن شرياق ملك مصر،وكان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة؛وسبب ذلك أنه رأى فى منامه كأن الأرض انقلبت بأهلها،وكأن الناس هاربون على وجوههم،وكأن الكواكب تساقطت،ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة ،فأغمه ذلك وكتمه،ثم رأى بعد ذلك كأن الكواكب الثابتة نزلت الأرض فى صورة طيور بيض،وكأنها تخطف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين انطبقا عليهم،وكأن الكواكب النيرة مظلمة.فانتبه مذعورا وجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر ـ وكانوا مائة وثلاثين كاهنا ـ فأخذوا فى ارتفاع الكواكب ،فأخبروا بأمر الطوفان،فأمر عند ذلك ببناء الهرام وملأها طلسمات وعجائب ،أموالا وخزائن،وغير ذلك،وجمع فيها كل ماقالته الحكماء وجميع العلوم الغامضة ،وأسماء العقاقير ،منافعها ومضارها،وعلم الطلسمات ـ الألغاز والرموز ـ والحساب والهندسة والطب،وكل ذلك مفسر لمن يعرف كتابتهم ولغاتهم.ولما أمر ببنائها وقطعوا الأسطوانات العظام والبلاطات الهائلة وأحضروا الصخور من ناحية أسوان فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة ،وشدها بالرصاص والحديد والصفر وجعل أبوابها تحت الأرض بأربعين ذراعا.وكان ابتداء بنائها فى طالع سعيد،فلما فرغ منها،كساها ديباجا ملونا من فوق لأسفل،وجعل لها عيدا حضره أهل مملكته كلها .ثم عمل فى الهرم الغربى ثلاثين مخزنا مملوءة بالأموال الجمة والآلات والتماثيل المصنوعة من الجواهر النفيسة،وآلات الحديد الفخر والسلاح الذى لايصدأ والزجاج الذى ينطوى ولايكسرز.وعمل فى الهرم الشرقى أصناف القباب الفلكية والكواكب وما صنع أجداده من التماثيل.وجعل فى الهرم الملون “الأكبر” أخبار الكهنة فى توابيت من صنوان أسود ومع كل كاهن مصحفةـ أى صحيفة أو كتاب ـ وفيها عجائب صنعته وحكمته وسيرته وما عمل فى وقته،وما كان وما يكون من أول الزمان إلى آخره .وجعل لكل هرم خازنا من قرب منه وثبت إليه من ناحية قصده وطوقت على عنقه فقتله”..هكذا تحدث المقريزى فى الجزء الأول من الخطط والسيوطى فى حسن المحاضرة.
لكننا نجد روايات أخرى عديدة يصعب الإلمام بها جميعا ،وننقل بعض ماقاله الدمشقى فى “نخبة الدهر فى عجائب البر والبحر” فيقول:”..السبب الموجب لبنائها استدلال هرمس بالأحوال الكوكبية على حدوث الطوفان فأمر ببنائها وإيداعها صحائف العلوم والأموال وما تخاف عليه من الذهاب والدثور”..ويقول القزوينى فى “آثار البلاد وأخبار العباد” إن “هرمس الأول الذى يسميه اليونانيون أخنوخ بن يرد وهو إدريس عليه السلام علم بطوفان نوح إما بالوحى وإما بالاستدلال..فأمر ببناء الأهرام”.
وهكذا يتبين لنا تأثير الطوفان على الروايات التى قيلت كسبب لبناء الأهرام ،وأن أسباب البناء كانت إنسانية خوفا على الناس من الطوفان ،وهذا يشير إلى احتمالية كذب الروايات التى تقضى باستخدام السخرة فى البناء لو افترضنا صحة أقوال المؤرخين التى نقلناها .
أخرى يرويها المسعودى فى كتابه”مروج الذهب ” أن “أهل المغرب لما انذر به حكماؤهم ـ يعنى الطوفان ـ بنوا أبنية كالهرمين المبنيين فى مصر،إذا كانت الآفة من السماء دخلناها،وإذا كانت من الأرض صعدناها،فزعموا أن آثار ماء الطوفان وتأثيرات الأمواج بينة على أنصاف هذين الهرمين لم يجاوزهما.وقيل إن يوسف عليه السلام جعلهما هريا ـ أى مخازن كبيرة ـ وجعل فيهما الطعام والميرة لسنى القحط”.ويروى المسعودى أيضا فى “مروج الذهب” قوله:”..فإنى سمعت جماعة من رواة التاريخ الشفاهى يخبرون أن يوسف صلى الله عليه وسلم حين بنى الأهرام اتخذ مقياسا لمعرفة زيادة النيل ـ حيث كان مجرى النيل قديما بجوار الأهرام.ويشير لنفس لنفس الغرض اسحق بن حسين فى كتابه “آكام المرجان فى ذكر المدائن المشهورة فى كل مكان” حيث يقول:”الهرمان ارتفاعهما مائة ذراع وهى من صخرة ،وبها كان يجمع الطعام فى أيام يوسف عليه السلام”..والظاهر من تكرار أنهما هرمان أن من كتب ذلك لم يلحق كشف الهرم الثالث الأصغر الذى كان مطمورا فى الرمال حتى نهايات القرن الخامس الهجرى،وأن من ربط بناء الأهرام بيوسف عليه السلام تأثر بروايات اليهود عن أن يوسف هو من بنى الأهرام وصاحب عمارتها. بل إن حكاية استخدام يوسف عليه السلام للأهرام كمخازن للغلال فى سنوات القحط كان لها صدى فى أوروبا العصور الوسطى؛إذ رسمت قصة يوسف عليه السلام بالموزايكو فى سقف الرواق الشمال لكنيسة سان مارك بالبندقية فى القرن الحادى عشر الميلادى ـ كما يذكر آن وولف فى كتابه “كم تبعد القاهرة” ـ حيث نجد يوسف الوزير يشرف على تخزين الغلال ،وكانت هذه الغلال تشاهد مخزونة فى الأهرام التى صورها الفنان أينيه ،وعددها خمسة ولها نوافذ “..واستمر هذا الاعتقاد طويلا حتى القرن السادس عشر الميلادى.وكأن الأهرام قد أنقذت مصر من المجاعة والقحط فى زمن يوسف عليه السلام بحفظ الغلال فيها.
وهكذا ظل السؤال ملحا على المؤرخين والرحالة والباحثين حول كيف ولماذا بنيت الأهرام،واحتار الجميع مابين السحر أو المعجزات الإلهية أو حتى بواسطة عمالقة من بنى البشر،ويبدو أن التساؤلات ستظل حائرة دون رد يشفى الغليل ويقدم الدليل.
Discussion about this post