بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
جلست الحفيدة ذات السنوات الثلاث بعدما اقتنصت منى محمولى بدحلبتها وتحايلها ولغة عينيها المغمضتين نصف إغماضة والسائلتين بكل لماضة،وإصبع السبابة تشير إلى المحمول: جدو ادينى فونك!
ولأننى أحفظ رحلة استيلائها على محمولى فقد تابعته في يدها وهى تنتقل بإصبعها بسرعة خاطفة من نافذة إلى أخرى حتى تريثت قليلا وهى تستجيب لكلمات ذهب الليل،غير أنها مالبثت أن انتقلت إلى أخرى تراقب الأب الحائر مع طفله يداعبه ويغنى له انتظارا لعودة الأم،يغنى له”ماما زمانها جاية”.وقلت في سرى رحم الله محمد فوزى فهاهو يحيا بأغنياته الرشيقة الهادفة المسلية للطفل وقد وورى الثرى منذ 57 عاما.
ولم تتوقف الصغيرة عن استعراض ذات الأغنية وأنا أراقبها وأستمع معها لمحايلة وتسلية الأب لصغيره بحكاية الواد النونو والواد اللى اسمه عادل اللى جا الدكتور وراح مديله حقنة كبيرة،نفس الكلمات لكننى مالبثت أن اكتشفت أن المؤدى قد تغير مرة واثنتين وثلاثا مابين فرد إلى عدة أفراد يتناوبون أداء نفس الأغنية ،وأحيانا بتصرف في الكلمات تغييرا أو حذفا تبعا للمؤدى وبلده، واكتشفت أن كل مواقع أغانى الأطفال تصرفت في نفس الأغنية بشكل أو بآخر مع الاحتفاظ باللحن الأصلى، ولست أدرى بالطبع هل تم هذا بمعرفة أصحاب الحقوق في الأغنية خاصة التأليف والتلحين؟
ماما زمانها جاية،ذهب الليل طلع الفجر،ست الحبايب،ياغالى عليا ياحبيبى يا أخويا،أمورتى الحلوة،أكلك منين يابطة،حبيبة أمها…مجموعة من الأغنيات التي ارتبطت في أذهان الناس بعلاقات قوية ترجع إلى كونها معبرة عن الأسرة وتكوينها وأفرادها فلكل منهم وجود داخل كل أغنية من تلك الأغنيات،لكن يجمعها معا برباط أشبه بحبل السبحة أن كاتبها شاعر واحد هو الشاعر حسين السيد رحمه الله الذى توفى منذ أربعين عاما في مارس 1983عن 67عاما.
وتبدأ حكاية الشاعر الراحل بميلاده يوم الاربعاء 15مارس 1916حيث ولد في استانبول من أب مصري وأم تركية وحضر معها لمصر وعمره عامان وأقامت الاسرة عند خاله في مدينة طنطا الذي كان شيخا لإحدى التكايا الصوفية التي يتجمع فيها الدراويش والذين استمع لهم الطفل حسين فبدأ احساسه بالموسيقي والشعر وأتم دراسته الابتدائية في طنطا ثم جاء للقاهرة حيث كان والده تاجرا كبيرا ودخل حسين مدرسة الفرير الفرنسية وتفوق علي جميع زملائه في اللغة العربية وحصل علي البكالوريا عام 1937 وأراد أن يلتحق بكلية الآداب لإشباع هوايته ولكنه اضطر تحت ضغط والده أن يعمل معه في توريد الاغذية للجيش والمستشفيات الحكومية لأنه كان الولد الوحيد لأسرته والمسئول عنها، وذات يوم قرأ في الصحف ان شركة افلام محمد عبدالوهاب تطلب وجوها جديدة فتقدم للعمل في التمثيل وبالصدفة عرف انهم يبحثون عن نص اغنية تناسب موقفا سينمائيا في فيلم يوم سعيد فعرض عليهم اغنية ‘اجري اجري’ التي حظيت باعجاب عبدالوهاب وعزمه علي الغداء واصبح اعز صديق له مدي الحياة حتى توفى هو عام ١٩٨٣ قبل أن يلحقه عبدالوهاب عام ١٩٩٠.
إنه شاعر الأسرة بلا منازع وقد كتب لكل فرد من أفرادها أغنية تعبر عنه فكتب للأم ست الحبايب وللابن الصغير وللابنة طفلة وشابة،وله مع الشعر والفن حكاية قوامها ألف أغنية تفوق فيهاوتغنت بها كل أصوات الزمن الماضى ومازالت حتى الآن تتجدد عبر الشبكة العنكبوتية والمواقع الخاصة بالغناء للأطفال وللأسرة عموما،بل ومن وجهة نظركثيرين فإن حسين السيد هو أحسن وأبرز من ألف الشعر الغنائي والأغاني الشاملة المتنوعة ..فمن يعلم أن حسين السيد هو مؤلف عاشق الروح ( وعشق الروح مالوش آخر.. ) لا يصدق أنه هو مؤلف مثلا أغنية ” قلبي يا غاوي خمس قارات زي القرع تمد لبرة ” ذات الطابع الكوميدي لفؤاد المهندس. ولا اسكتشات ثلاثي أضواء المسرح، ومن قبلهم منولوجات إسماعيل يس ، وشكوكو ، ومنير مراد .. ولا يصدق أنه مؤلف ساكن قصادي وفاتت جنبنا تلك الأغاني التي يسمعها المستمع وكأنه يراها ..حسين السيد في جملة واحدة يمكننا اعتباره صاحب الأغنية التي نراها بآذاننا ونسمعها بعيوننا.
فى 1957، أعطى حسين السيد، ومحمد عبد الوهاب، لفايزة أحمد “ست الحبايب”. . تلك الأغنية التي ما زال الناس بعد أكثر من ٦٥ عاما يصغون إليها باستمتاع كبير، ويعاد بثها إما بصوت فايزة، أو بصوت محمد عبد الوهاب نفسه، في محطات الإذاعة العربية كلها، فتبدو وكأنها وليدة اليوم، وفيها يتألق حسين السيد في تقديم الأم بوصفها رمزًا للإيثار والتضحية:
زمان سهرتي، وتعبتي، وشلتي، من عمري ليالي
ولسه برضه، دلوقتي، بتحملي، الهم بدالي
أنام وتسهري، وتباتي تفكري
وتصحي من الأدان، وتيجي تشقّري.
ويبدو أن النجاح الهائل الذي حققته أغنية “ست الحبايب” دفع الثلاثي (السيد، وعبد الوهاب، وفايزة) في السنة ذاتها، لابتداع أغنية تتحدث عن “الأخ” بالمحبة نفسها، والحنان نفسه، تقول كلماتها:
يا غالي علي يا حبيبي يا خويا
يا أجمل هدية من أمي وأبويا
يا حبيبي يا خويا
ويبدو أن براعة حسين السيد في تأليف أغاني الأسرة قد لفتت نظر المطربة اللبنانية صباح فاتصلت به، وطلبت منه كتابة أغنية للأطفال، فكانت الأغنية الشهيرة “أكلك منين يا بطة”، من ألحان فريد الأطرش، 1962:
أكلك منين يا بطة أكلك منين؟
في فراولتين في شفايفك، حلوين حلوين
هاتي وحدة لماما، عشان ماما، عيونها الاتنين
عايزين ياكلوكي ومش عارفة، ياكلوكي منين. . منين؟
وتكررت تجربة الثلاثي الجديد (حسين السيد، وفريد الأطرش، وصباح) في فيلم “الليالي الدافئة”، بأغنية “حبيبة أمها»:
حبيبة أمها، يا اخواتي بحبها، دي حبيبة أمها
أيام عمري اللي فاتت عشانك عشتهم
وسنين عمري اللي جاية عشانك حـشتهم
عايزاكي تبقي شابة وعنيا يختمم
ويشيلوا ولاد حبيبتي
وحبايب ستهم.
وكذا أغنية” أمورتي الحلوة بقت طعمة ولها سحر كببر “..
وبعيدا عن مشواره مع الشعر والفن كان اتجاهه قسريا للعمل بالتجارة حيث إن والده كما ذكرنا كان مسئولا عن توريد المواد الغذائية للجيش والمستشفيات فى ذلك الوقت في زمن الملكية، ويشاء القدر أن يتوفى والده فجأة، ولم يكن محسوبا لهذا الرحيل المفاجئ حسابا، واضطر أن يسير على نهج والده قبل الأوان،لدرجة أنه ترك كلية التجارة من سنة ثالثة، وبدا الدخول فى مهنة التجارة، ولم يكمل دراسته.،وكانت أزمته الكبرى مع التجارة عندما حدث له مشكلة فى شغله فى التوريدات التى كان يرسلها إلى الجيش وقتها فى الستينيات ، والتى أمر عبد الناصر بوقفها فى منتصف العملية، بعد أن اشترى حسين السيد أطنانا من الأغذية لتوريدها للجيش، وبرر عبد الناصر أنه يجب أن تكون هناك مناقصة ولا يمكن التعامل مع شخص واحد محدد، وكان مفروضا أن يستلم حقه من التوريدات، و كانت ضربه لحسين السيد، وأعلن إفلاسه حينها، حيث أنه دفع الفلوس فى أطنان من المواد الغذائية والتى لم يتم توريدها، وقام ببيع العمارة التى كان يمتلكها، وأصبحت تحت الحراسة، وكان السادات شاهدا على الواقعة، وقال له بعد توليه الرئاسة أنا فاكر مشكلتك مع عبد الناصر، وكانت علاقتهما التى تواصلت بعد ذلك وكان السادات يحب أن يسمع أحدث ما كتبه حسين السيد قبل نشره أولا بأول، لأن إلقاءه كان مميزا، حيث كان يرسل السادات سيارة له تأخذه، وتعيده.ورغم أزمته بسبب عبد الناصر إلا أن ابنته تقول إنه ظل يكتب له.. حيث تحكى ابنته بقولها إنه كتب لعبد الناصر أجمل الأشعار دون منافقة، فقد رأت والدها يوم تنحى عبد الناصر بعد نكسة 67 كيف بكى عليه بشدة.
هو اخصب شاعر غنائي كتب روائع موسيقار الاجيال ولكن حسين كان يعتز بأغنية الحبيب المجهول التي كانت سببا في تعرفه علي زوجته التي اصبحت هي ملهمته وام أولاده.. وكتب حسين السيد في الحب والوطنية لاعظم المطربين والمطربات كما كان رائدا لاغاني الاطفال وابتكر اغانى القصة الغرامية الكاملة مثل ساكن قصادي ، وعايز جواباتك ، فاتت جنبنا’ وفي مجال الاغنية الدينية ‘إله الكون للسنباطي’ ومزج بين الديني والوطني ‘الصبر والايمان’ لعبدالوهاب الي جانب أناشيد وطنية رائعة مثل ‘دقت ساعة العمل الثوري ، المارد العربي ، صوت الجماهير، الجيل الصاعد..
رحم الله حسين السيد صاحب العطاء الغزير الجميل الذى لم يلعب أبدا على الغرائز أو الألفاظ المكشوفة أو الأذواق الشاذة في المشاعر والأحاسيس.
Discussion about this post