بقلم الكاتب الصحفي الكبير
سعيد الخولى
التوت هذا العام بدأ موسمه بمصر منذ أيام ، وفي القاهرة خصوصا يبدو أنه ما شاء الله سيكون موسما مثمرا ممتدا كما يبدو المعروض منه في الشوارع، والجديد منذ سنوات قريبة جدا ان كثيرا من المقيمين بضواحى القاهرة وتجمعاتها السكنية الحديثة استزرعوا شجيرات توت عمانى غزيرة الثمر لذيذة الطعم، في حين انقلبت الآية في الريف مع مشروع تبطين الترع والتخلص من كمية غير قليلة من الشجر عموما وفيه بطبيعة الحال أشجار التوت، فسبحان مبدل الأحوال الذي يغير لايتغير..
وللتوت فى ذاكرتي ذكريات منذ الطفولة فمازالت ترن فى أذنى أبيات البحترى فى وصف الربيع ،كنت فى الابتدائية وكانت إحدى بنات العائلة فى الإعدادية – وهى حاليا جدة فى منتصف عقدها السابع -، اتذكرها وهى تمسك بكتاب اللغة العربية تقطع وسط الدار جيئة وذهابا وتردد أبيات جميلة تختبر حفظها لها قبيل الامتحان.كانت تصدح وتتغنى بها وهى تردد:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا …..من الحسن حتى كاد ان يتكلما
وقد نبه النيروز فى غسق الدجى ….أوائل ورد كن بالأمس نوما
وامتدت بى الأيام فى القرية حتى أدركت مايعنيه البحترى فى تصويره الرائع لأيام الانطلاق من سجن الشتاء ببرده القارس وطين أرضه المعوق للحركة وعرى أشجاره من الخضرة وانفضاض أوراقها فى الخريف استعدادا لتفصيل حلة ربانية جديدة تمتزج فيها الخضرة مع الحمرة والصفرة مع الزرقة والبياض مع السواد.
هكذا كانت الأشجار تتحول إلى لوحة ربانية مستحيلة التقليد عصية على التكرار إلا بيد خالقها الأعظم ومبدعها الفريد الذى بلاشريك أو رفيق. وكنا نستدبر كمون الشتاء ونستقبل انطلاق الربيع ومع كل منا علبة ورق مقوى مثقبة من أعلاها لتوفر تهوية خافتة لديدان القز التى نقتنيها ونتابع نموها يوما بعد يوم بعد ان نكون قد اشتريناها ولم يتخط طولها سنتيمترا واحدا وسمكها فى مثل فتلة خيط الإبرة.ولم يكن امامنا من سبيل لتغذيتها والعناية بها سوى أوراق التوت التى تكون فى ذلك الوقت قد أخذت زخرفها وازينت كأجمل ما تكون الزينة.
موسما للانطلاق كان مقدم الربيع ؛فالامتحانات على الأبواب والمدارس يقل ذهابنا إليها ويكثر خروجنا بالكتب على الطرق الزراعية مع بزوغ الشمس على جسر البحر أو الترعة الرئيسية للبلدة، وكل منهما مرصوص مزدان بشجر التوت يتفنن فى عرض بضاعته الربانية وهى تميل للنضج يوما بعد يوم .شئ من المذاكرة وكثير من المداعبة لأشجار التوت عديدة الأنواع والألوان فيما تثمر من توت ذى فوائد عديدة قرأت عنها بعد ذلك ، مثل تنشيط الدورة الدموية في جسم الإنسان والمساعدة في علاج التهاب الحويصلات. كما أن حمض التنيك المركز في التوت عامل مساعد في الحفاظ على القلب الصحي السليم. و يخفف من أزمات الربو. ويعمل كمبيد للبكتريا ويؤثر على حمضية البول كما أنه يقي الإنسان من استعداد جسده لتكوين الحصوات.
وعديدة هى ألوانه مابين التوت الأبيض: الذي تؤكل ثماره وتتغذى على أوراقه دودة القز، وتكون أزهاره ذات لون أصفر مائل إلى الاخضرار، وأوراقه كثة. والتوت الأحمر: أو البنفسجي وأشجاره أقل حجماً ونمواً من أشجار التوت الأبيض
التوت الأسمر: وهو ما يوصف دوائياً، وهو المقصود كلما ذكر التوت في المجال العلاجي.
ولم أستغرب كثرة شجر التوت على شواطئ الترع بعدما قرأت أيضا أنه قد وجدت ثمار التوت في مقابر هواره واستعملها الفراعنة كغذاء وضمن الوصفات العلاجية. قبل أن يعيده محمد على من لبنان ويستجلب مئات الآلاف من شجيراته أوائل القرن التاسع عشر ليقيم عليه صناعة الحرير بعد غزوه للشام ومعرفته بسر التوت. ويسمى التوت باللغة الفرعونية “الخوت” واللفظ قريب جداً من العربية.. وقد استخدم الفراعنة عصير التوت شراباً لعلاج حالات البلهارسيا وحرقان المعدة ولعلاج حالات الكحة والسعال الديكي.
وقرأت أيضا عن داود الانطاكي في تذكرته: “التوت يصلح الكبد ويربي شحما ويزيل فساد الطحال ويطفئ اللهيب والعطش ويفتح الشهوة والسدد وينفع أورام الحلق واللثة والجدري والحصبة والسعال خصوصاً شراباً، يبرئ القروح وحروق النار طلاء.. أوقية ونصف من عصارة ورقه تخلص من السموم شراباً.. وثمرته بالخل تبرئ من الشرى والشقوق ومع ورق الخوخ اخرج الدود حياً عن تجربة”.
نعم كل هذا علمته عن التوت عشقا لثماره وامتطاء لأشجاره واستخداما لأوراقه مع بنى عمومتى ورفاق دراستى بمدرسة القرية،رغم اننا لم نستخرج هذا الحرير من دود القز ولامرة واحدة ،فقد كانت المتعة تأخذنا عن الصنعة ونظل نعتنى بالدود حتى تفرز الدودة خيوطها الحريرية الدقيقة وتصنع شرنقة حول نفسها،ونظل ننتظر حتى تخرج ثانية من الشرنقة وقد صارت فراشة جميلة رائعة الألوان تأخذ بالأبصار وتصرفنا عن استكمال دورة استخراج الحرير من شرنقتها التى تفسد بمجرد خروج تلك الفراشة منها،ونستمتع ببيضها الذي ترصه بجمال وننتظر فقسه للدود الجديد ‘ونشكر للربيع بهجته وللتوت لذته وللدود فراشته ولله إبداعه وصنعته.
Discussion about this post