نصّ االقصيد المشتغل عليه
مملكة الوجد
مملكة الوجد
يا إمرأة تقضم شهد
أحزاني
وتدسني في وحدتها شمعة
من حبر
والروح طائر من دخان
وأنا أوزع دهشتي على العالقين
في دمي
حين يسكب الليل غربته
يستجدي غفوة من نديم
مصلوب على آية السكر الأخيرة
تهرأت تفاصيل جبته
وليس تحتها إلا وجه عقيم
مازالت ندوب البدء تعجزه
ترسم أقدار جثته
عصا من تيه
وقرحا من سديم
يا نمل الأفئدة المهجورة
تمهل قد تدوسك الريح
إن عافت مضاجعها
وتطيرت من أسمائها الحسنى
تجيء على وعث إن خف حلمي
ليس لها إلاي
وأنا أحجية من رقيم
قال الراوي
كيف تنزل الشمس من مد البروج
خار صوت من عفن الدنيا
آتيك بها على بيض من زجاج
تسابق عمرها إليك
والنمل مازال يفك طلسمه
يحتاج مزنة من رذاذ الحرف
وشهقة من عروج
ناءت روحي تعتق وحدتها
فاشرب ملحك ما إستطعت
واذروني على غيم النهايات
أتهجى أوجاع ناي مجروح
أصرف فعل النفخ في أزمنته
رتل حزنك جمرا من ضياع
تتلحف الدنيا لهفتها
تتطهر من غمغمة النوء الكليم
يتهجى شهوة الطين
اغمر ألواحي بالرفض
أشتهي صلب حروفي على محاملها
قد يزورني الموت مزهوا
يعلن قيامة الأشجان
نورالدين بن يمينة
__________________________________________
القراءة وأنا أقرأ هذه القصيد تأكّد لديّ أن القراءت الأدبية في القصيد الحديث قد تقذف بمتلقيها في متاهات جمالية تبررها شعريتها وخطابها..
فيجد القارئ خلال عمليّة التلقي للقصيد نفسه في ورطة ابداعية تحطّ به عند كيمياء اللّغة ..ويتيقّن دوره في استقبال النّص الشّعري فيتوهّم كحالي دوره في التّجذر في بنية النّص ومكامن الإبداع فيه.
ورغم ما قد أجده من صعوبة كمتلقيّة غير أكادميّة في المسك بجماليّة هذه القصيد فإنّ ما يتحيه أفق التّلقي من حريّة الإبحار والّتهويم في جسد النّص هوشفيعي.
مملكة الوجد
العنوان وحده بؤرة اغراء وشَرَك أتقن الشّاعر صياغته، ليوقع القارئ في إغواء الحلول بمملكة الوجد ..
فالوجد هو من أعتى مراتب الحبّ فهو مؤرّق ومضن وهو لهيب يتأجّج من فرط الحبّ والشّغف بالمحبوب
وقد قال عنه
أحمد شوقي
يا لائمي في هواه والهوى قدر/ لو شفّك الوجد لم تعذل ولم تلم
فالشّاعر حطّ بنا منذ عتبة العنوان في عمق داخلي دلاليّ للوجد…فأسّس له مملكة وهو بهذا يحقّق درجة عالية للتّقمّص الذهني لقارئ من خلال متعة التّفكيك للصّورة الشّعريّة بدء بالعنوا ن
أمّا القراءة فسأبنيها على مظاهر التّحديث في اللغة والصّورة والرؤية واعتماد الإيقاعات الشّعرية …
يستهل الشاعر نصّه ب
يا إمرأة تقضم شهدأحزاني …..وتدسني في وحدتها شمعة
من حبر
فالتّحديث حصل في التقاء الكيمياء باللغة هنا في التّجريب
فاللغة مخبر والشاعر يحوّل اللّغة الى عمليّة تجريبية تنآى عن المعتاد والمألوف …(فيصبح الحزن شهدا تقضمه الحبيبة وتستلذه ..ويصبح الحبيب شمعة من حبر ..تضيئ بالحرف واللغة ..) فهو يبني فرضياته ويثبتها بخلطة كيمائية مفترضة تخرج بالصورة الشّعرية من بساطتها الى طلاسم تستحق الفكّ والتّحليل من القارئ..فيها الحزن يصير شهدا … والحبيب شمعة من حبر في تدليل للقوّة المشبعة تعبيرا ..مع ملاحظة حول اهتداء الشاعرإلى مفرداته ‘الفعل قضم بما معنى الأكل بطرف الأسنان ..وقوله تدسني في وحدتها شمعة…
كما أنّ التّشكيلات المجازية جاءت لافتة وخارقة وقد شكّلت على امتداد جسد القصيد إبداعا تجريبا على المستوى اللّغة والبناءوالدّلالة
وأورد أمثلة واستدلالات مجتزأة من القصيد كقول الشاعر هنا
(والروح طائر من دخان …حين يسكب الليل غربته …يستجدي غفوة من نديم …مصلوب على آية السكر الأخيرة….عصا من تيه..وأنا أحجية من رقيم ..)
فما حفلت به هذه المجازات من جمالية المعنى ودقّة العبارة شكلّت الصّورة الخارقة لرؤية الشّاعر وأحاسيسه في مملكة الوجد وتخطّت النّموذج اللّغوي المتعارف والمتداول ..فكيمياء التركيب اللّغوي جاء تمرّدا صريحا في تكثيف المعنى والصورة المتوتّرة للشاعر نورالدين بن يمينه ..
كما شكلت ظاهرة الغموض في بعض المقاطع ملمحا ابداعيّا
كقوله هنا
تجيء على وعث إن خف حلمي .. ..وأنا أحجية من رقيم …خار صوت من عفن الدنيا..
يحتاج مزنة من رذاذ الحرف وشهقة من عروج….تهرأت تفاصيل جبته
وليس تحتها إلا وجه عقيم
آتيك بها على بيض من زجاج…
فالإنحراف عن نمطية اللغة والصورة جليّ..إذ يتلاشى البعد اللّغوي ليحلّ التعقيد والغموض الذي يخلف حيرة وتقصيا لا مناص منه لصوت خار من عفن الدنيا ..واتيان على بيض من زجاج.. وقد دعّمت الإستعارة تحقيق الشّعرية وانتاج مشهداشعريّ قائم على التّنافر والتّباعد بشكل مثير للدّهشة وأرود كاستدلال على هذا قول الشاعر
رتل حزنك جمرا من ضياع
تتلحف الدنيا لهفتها
تتطهر من غمغمة النوء الكليم
جمر الحزن تقابله لهفة واللّهفة لغة هي شدّة الشّوق لشيء أو حدث مفرح لا محزن …..
وقوله في نهاية القصيد
قد يزورني الموت مزهوا…
فمشهدية الموت اقترنت بالزّهو …
وكذلك قوله مخاطبا نمل الأفئدة
يا نمل الأفئدة المهجورة
تمهل قد تدوسك الريح
إن عافت مضاجعها
وتطيّرت من أسمائها الحسنى
فك
قد نحتاج جهد كيميائي لنفكّك طلاسم ماغمض من الكلام ..
وأختم بالقول إنه من الصّعب حصرجمال هذا القصيد سواء على مستوى اللّغة أو البناءوالدلالة ..فقد شممت منها تمردّا لافتا كنمط شعريّ يحتفي بلغة تجريبية ..والشاعر نوردين بن يمينه له هويته الخاصة في كتابة الشّعر وهو حريّ بأهتمام النقّاد والأكادميين فبالنّقد يزدهر الإبداع ويرسم خارطة حداثة الشعر العربي ….
وتبقى القراءات دوما خاطئة تنتظر قراءات تكملها وتدعمها
منوبية الغضباني القصرين في 18.04.2023
Discussion about this post