بقلم الكاتب الصحفي
سعيد الخولى
ظلموها وقالوا حزب شجر الجميز ونسبوا إليها كل البدينات “المفشكلات” ، وهم معذورون فى سوء تشبيههم فهم من أبناء الطبقات التى لاتعلم عن شجرة الجميز سوى ضخامتها. رغم أن المصرى القديم أطلق على “حتحور” ربة الحب والموسيقى والغناء والرقص “سيدة الجميز”، وهى التى علمت المصريين القدماء الرقص والغناء.
كانت شجرة الجميز فى طفولتى الأولى أول مايلفت نظرى كلما ذهبت إلى الغيط رفقة أبناء عمومتى بفروعها الممتدة على مساحة كبيرة وجذوعها الضخمة سهلة الارتقاء مما كان يشجعنا على الوصول لأبعد نقطة آمنة ممكنة نطل منها على العالم السندسى الأخضر الفسيح من علٍ.
شجرة الجمّيز..
أهم الأشجار والنباتات المقدسة عند المصريين القدماء، وهي شجرة نوبية الأصل انتقلت إلى فلسطين والشام، ويبلغ متوسط عمرها 400 عام، كما تدلنا النقوش والرسوم الموجودة على جدران المعابد المصرية القديمة…
وعن شجرة الجميز يقول سليم حسن، فى موسوعة مصر القديمة الجزء الأول، إن “تابوت “أوزيريس” صنع من خشب شجرة الجمّيز، وكانت تظلله بفيئها من اليوم الـ24 من شهر كيهك إلى نهايته، وهذه المدة هى عيد “أوزيريس”، وكان خشب الجمّيز يستعمل عادة لصنع التماثيل والتوابيت والأثاث، أما ثماره فكانت تؤكل وتقدم قرابين”. وما زال المصري حتى اليوم ينظر إلى شجرة الجميز نظرة احترام على أنها رمز للخير.
وعندما زار “هيرودوت” مصر في القرن الخامس قبل الميلاد؛ وصفها بأنها غابة من الجميز؛ دلالة على انتشارها في جميع أنحاء وربوع مصر.
وعن فوائدها الصحية يقول “ابن البيطار”: “يستخرج في أيام الربيع من هذه الشجرة لبن قبل أن تثمر ويجفف ويقرص ويخزن في إناء من خزف، ويستخدم كمليّن ولازق للجروح ومحلل للأورام العسرة، وقد يشرب ويمسح به لنهش الهوام ووجع الطحال ووجع المعدة والاقشعرار، إذا طبخت ثمرته نفع لمن كان محرورا، ونافعا من السعال المزمن، ورقه إذا سحق وشرب منه على الريق نفع في الإسهال الذي عجز عنه المعالجون”.
كما يؤكد الطب الحديث قدرة ثمار الجميز في علاج النزلات المعوية وانتفاخات البطن والإمساك بتناول المريض كوبا من عصير الثمار صباحا على الريق ومضغ ثمار الجميز لأطول فترة ممكنة في الفم، أو استعمال عصيرها كمضمضة لعلاج التهابات وترهلات اللثة، كما يساعد في علاج مرض الصدفية وبعض الأمراض الجلدية الأخرى على شكل دهان موضعي، حيث إن لبن الجميز يحتوى على المضادات الحيوية القادرة على إبادة الجراثيم ومواد أخرى تساعد على التئام الجروح….
كل تلك الفوائد الصحية لم نكن ندريها بالطبع ونحن نتابع الجميزة العتيقة على رأس أرض عاشور ونتابع طرحها الذى كنا نسميه “عَجْر” وهو فى شدة اخضراره وقوة تماسكه،وكان لابد من عملية جراحية لهذا “العجر”كى ينضج وتتحول الثمرة المغلقة من الأخضر الفاتح إلى صفار فاحمرار فاقع يكون دليلا على وجوب أكلها والاستمتاع بلذة لا شبيه لها.أما العملية الجراحية فتسمى “تختين” وتستدعى وجود مطواة صغيرة مع كل منا يشق بها شقا طوليا أو حتى عرضيا فى الثمرة الجافة القوية المقفولة ليتم نضجها تماما فى اليوم الثالث فيلين ملمسها وتتحول الفتحة إلى مايشبه شفتين عليهما أسود شفاه بدلا من الأحمر المعتاد،وتكشف باطنها ثم تطلب “الأكّالة”..فنأكل منها ونحن فوق فروع الجميزة منا من يقف فوق الفرع يمد يديه هنا وهناك يلتقط الثمرات بالاختيار؛فالمحصول وفير ودرجة النضج متفاوتة ،ومنا من يهيئ مجلسا فوق فرع نائم وكأنه يمتطى “ركوبة” لها سرج مريح،حتى إذا أكلنا فشبعنا اصطحبنا معنا لمن بالدار كمية من الجميز كفاكهة معتادة.
كنا نفعل ذلك عن حب وهواية ولقلة وجود الفاكهة المشتراة فى بيت الفلاح زمان ،فكان الجميز ـ بديلا عن التين ـ والتوت ـ بديلا فى بعض أنواعه عن الفراولة ـ والبطيخ هو الفواكه المعتادة بحكم زراعة الجميع له آنذاك،لذلك كان اهتمامنا بذلك نوعا من إحياء تلك النوعية من الأشجار وثمارها اللذيذة،الآن يندر اهتمام أبناء الفلاحين بذلك لتغير نمط المعيشة وكثرة الفاكهة فى البيوت ،وأصبح من المشاهد المحزنة أن يباع التوت والجميز فى الريف ،رغم أنهما “حاجة ببلاش كدة “،على رأى الإعلان الشهير قديما.
ومن المعروف أن للأشجار عموما قدرة كبيرة على استقطاب الطاقة الحيوية وتكثيفها وإعادة بثها في محيطها، ولشجرة الجميز خاصية تعطى السكينة مع الطاقة الحيوية، وما زال المصري حتى الآن يقول كدلالة على الاسترخاء والسكينة: “إنت فاكر نفسك قاعد تحت الجميزة.
Discussion about this post