رمضانيات 2023 (6) وحدة وطنية …
بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
كان وقت استقرارنا بشبرا عام 1970قبيل وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بشهر، ومن واقع عقد الإيجار لنا بذلك السكن كان توقيته يوم25 أغسطس1970،قبيل الوفاة الصادمة للملايين من عشاق الزعيم بشهر وثلاثة أيام.
عشر سنوات كان عمرى ونحن نستقر بتلك البقعة من منطقة شبرا العتيقة،أول مالفت نظرى فيها ذلك التواجد الملحوظ لبعض النازحين من قريتنا العزيزة نكلا للاستقرار بالقاهرة،سواء من سبقونا مثل خالى وخالتى والجارين الملاصقين لنا بذلك السكن ـ شقيقتان وزوجاهما وأولادهما ـ أو من نزحوا معنا أو لحقوا بنا، وكانت السمة المميزة للجميع أنهم وفدوا على من سبقهم فأخذ بيدهم بالاستضافة لبعض الوقت أو تمهيد فرصة عمل ممن كان يستطيع ذلك،ولذلك حديث مقبل إن شاء الله، لكن هذا الاستقرار فى شبرا كان أول معرفة لى بأن سكان مصر يتكونون من مسلمين ومسيحيين،وأنه ليس هناك مايفرق هذا النسيج بين أهل شبرا على وجه الخصوص،فقد وجدت هناك كثيرا من الشقق المشتركة التي كان يسكنها سكان من أهل الإسلام والمسيحية ويتعايشون معا في شقة واحدة يتقاسمون المكان ويماسر كل منهم حياته على طريقته داخل الحجرة التي تخصه،صالة مشتركة للشقة وحمام مشترك بين الجارين وأسرتيهما .
كثر احتكاكى بالحارة التي سكنا بها ومنها إلى الشارع الأكبر مع زملاء سنى ورفاق مدرستى بشارع راتب بشبرا وجيران السكن هنا وهناك،لم تلحظ مداركى وقتها أن هناك فرقا بين محمد ومحمود ومجدى وجمال المسلمين وبين جمال وبطرس وناجى وحربى ورأفت وصبرى المسيحيين،صغار رفاق نلهو معا ونمارس الكرة في حارة قاسم أحمد أو شارع محمود الحصرى أو شارع راتب أو الأزهار ،كل الأسماء للرفاق يجمعها الحب وتبادل اللعب والتردد على شقق أى منا والحصول من هنا أو هناك على بعض مانقسمه بيننا لنعاود اللعب واللهو البرىء الممزوج بعلاقة لاتهديد لها.
عام من اللعب اللذيذ واللهو البرىء والعلاقة الطبيعية لاتكلف فيها ولامحاذيرلأننا ببساطة وجدنا أنفسنا هكذا امتدادا لعلاقات الكبارسواء في البيت الذى كنا نسكن فيه أو في البيوت التى كان يقطن فيها أقاربنا كالخال والخالة وجيرانهما،ففي بيت الخال يرحمه الله كان أبو رأفت وصبرى وابناه رفيقين لى ولأبناء خالى وخالتى ،وفى بيت الخالة كانت هناك أم فايز وأمير رفيق دراستى،كانت خياطة تخيط عندها أمى وخالتى وبناتها وبجوارهما أبو صبرى.وعلى هذا العام مرت وتوطدت علاقتى بذلك الجو الجديد علىّ في الاقتراب من الجيران والمعارف اختلافا عن فترتنا السابقة منذ نزوحنا من القرية قبل خمس سنوات من هذا التاريخ.
وعاد بى دورة أيامى الأولى إلى نكلا للدراسة بها لأتنبه إلى قلة وجود المسيحيين بها فقد كانوا عبارة عن عدة أسر متوسطة العدد تنتشر بين أرجاء القرية شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، لم يكن هناك من شيئ لتمييزهم سوى المدافن التي كانت نهاية مدافن بقية أهل القرية شرق البلدة،كان ذلك الأمر فقط هو ما يمثل تفرقة بين الأموات أما الأحياء فقد كانوا أيضا مختلطين ممتزجين ،فكل البلدة تعرف عزيز فهيم صاحب محل تصليح الراديو والميكروفونات وأبناءه رفاق الدراسة لى ولأجيال سبقتنى من العائلة أو لحقت بى،وهناك سعد غطاس والد زميلى إدوارد،ومن في البلدة كان يجهل الدكتور رفعت حلمى؟
ثم كانت المدرسة العلوية حاضنى لأسماء عظيمة من المدرسين الكبار في تاريخها المجيد،ومن في البلدة ينسى الرمز الكبير في تدريس اللغة الإنجليزية الأستاذ فؤاد فام الذى نشأ بالصعيد واستوطن وأسرته الكبيرة القاهرة لفترة فى حى شبرا العريق مثال الوحدة الوطنية لكل مصر،وأخيرا حطت به الرحال كمدرس للغة الإنجليزية منتقلا إلى مدرسة قريتى الإعدادية العلوية الإسلامية، ليستمرئ العيش بالقرية ويتحول أبناؤه الشباب إلى رفاق دراسة لشباب القرية بمختلف سنواتهم الدراسية،ويتحول هو إلى فرع من فروع شجرة القرية لاتفصله لكنته القاهرية الصعيدية عن لكنة مغايرة بحراوية مطعمة بنكهة سكندرية لأهل البلد،ولايكاد أحد يستبين غربته أو يكتشف اختلاف ملته.
الأستاذ فؤاد إبراهيم فام،هذا هو اسمه،مدرس أول اللغة الإنجليزية،وتلك هى مهنته.فى الصف الثالث الإعدادى كان لى معه عام من المتعة والتقارب بين التلميذ وأستاذه كما بينه وبين بقية قرنائى وأترابى من البيوت والعائلات الأخرى؛فالأستاذ كان صاحبا للجميع تقريبا وصديقا للكثيرين خاصة رفقاء المهنة،وكان منهم عمى محمود رحمه الله،وكان كثير التردد على دارنا لاتكاد جدتى رحمها الله تفصل بينه وبين بقية أقاربنا وتشتد فى إكرامه إذا حل بنا ضيفا وبدارنا مسامرا لعمى وصحبهما الكرام..وكنت كثير التردد على بيته قرب الترعة القبلية وماكينة طحين البلد لأتلقى على يديه بين زملائى درسا خصوصيا فى اللغة الإنجليزية، حيث كانت العلاقة القوية بين عمى وبين الأستاذ فؤاد مدعاة لمجاملة كل منهما للآخر وكان من بين تلك المجاملة أن طلب الأستاذ فؤاد من جدى وعمى أن أحضر الدرس الخصوصى طرفه بالمجان مع ابنه رفيق الدراسة رمسيس وبقية زملائنا بنفس المرحلة . وكم استغللت بحب قوة تلك العلاقة فى مداعبة أستاذى ببيته وبدارنا وبالحقل أيضا؛كان الأستاذ محبا للأكل مقبلا على الحياة يجد فى بيوت القرية كرما ويلتمس مع رفاقه المدرسين التسرية واللهو بحقول البطيخ وتحت أشجار التوت وفى أمسيات الذرة المشوى بليالى الصيف الجميلة،ولم تكن تلك الأمسيات تتم بمعزل عنا نحن شباب العائلة فنحن من نجهز أكواز الذرة والقضب الذى نشوى به تلك الكيزان نهارا وننتظر قدوم ركب الأفندية ليلا لنكرمهم ونمتعهم ببطيخ وخوخ طازج وذرة مشوى ونختتم الليلة بفناجين صاج من الشاى المغلى فوق راكية الذرة وجمراتها شديدة التوهج .. نتبادل نحن الشباب التعامل مع الذرة وتقليبها وتسويتها على مهل لتكون حقا كما الحمام الزغاليل كما يدللها أهل المدينة.
ولكن الأمر لم يكن يخلو وما كان يجب أن يخلو من مداعبة الأستاذ مداعبات بريئة وأحيانا غير بريئة وكان أبناء عمومتى يستغلون قربى منه وتدليلى من طرف عمى فى اتقاء شر رد الفعل،فقد كان الأستاذ فؤاد يخاف أشد الخوف طريق الحقل ليلا ويخشى السير فيه وحيدا،كما كان يقفز فزعا إن هو لامسته حشرة طائرة أو زاحفة أو رأى فأرا ضخما بالحقل،وذات ليلة اتفق ابناء العم معى على أن نزيد جرعة الهزار الثقيل مع الأستاذ فؤاد ليلتها ونتحمل ماسوف يتلفظ به عمنا محمود من سباب أو حتى عقاب باليد لنا،وأوكلوا إلىّ مهمة إنجاز الاتفاق وكان عبارة عن “حنش طُعم”مما نجعله فى سنارة الصيد لإغراء الأسماك بالتهامه فتقع ضحية له.استخرجنا يومها بعضا من الطُعم اصطدنا به نهارا واحتفظنا بالباقى وسط قطعة من الطين كالعادة حتى إذا اكتمل جمع الأساتذة وطابت نيران الشوى ولذت أكواز الذرة وثنّينا بثمرات الخوخ وجاء دور الشاى اقتربت من الأستاذ فؤاد وأطلقت من يدى حنش الطعم كما كنا نسميه وهو دودة صغيرة الحجم لايتعدى طولها سنتيمترات معدودة لكنه أملس ويتخذ حركة دودية فى الحركة،أطلقته بخفة فوق ياقة قميص الأستاذ فؤاد وتركته يتسلل ويتوغل شيئا فشيئا مابين الفانلة والجلد ليطلق الأستاذ ساقيه للريح فى ظلمة ليل الحقل الموغلة فى الإظلام ،وأنا وسط ضحكات العالمين بما يجرى والمندهشين منه أجرى وراءه ألاحقه مشتتا بين الضحك وبين الإحساس بتأنيب النفس محاولا السيطرة عليه وقد كان قصيرا خفيفا رغم كرش بارز حتى لحق بنا بعض رفاق عمى وهو يحاول التخلص من ملابسه وأنا أمد يدى مباشرة لمكان الحنش أمسكه وأطمئنه..وانكشف الملعوب وكانت ليلة ضحكنا كثيرا فى أولها ونلنا من العقاب مانستحقه فى أوسطها وعدنا للضحك ملء شدقينا قبل أن نستسلم للنوم فى آخرها.
،هكذا نشأنا وتعايشنا معا وكبرنا معا في شبرا وفى نكلا العنب وضربنا أروع الأمثلة في الاقتراب والتفاعل وتجنب ما من شأنه أن يكدر صفو علاقات تمتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام عاشها السلف واستمر فيها الخلف دون أن يسأل أي من زميله ولو كان يجهله:أنت مسلم أم مسيحى؟
حقا ما أشقى الأغبياء حين يخلطون على الناس مايشيع بينهم الفرقة وهم فى سلام آمنون.
من كتابى “سر الندى وسحر الميتافيرس”.
Discussion about this post