بقلم الكاتب الصحفي سعيد الخولى
يرتبط القمح دائما فى ذهنى باستقبال الحرية والانطلاق والخروج من شرنقة الشتاء الخانقة فى الريف.حين يسفر عود القمح عن امتشاقه ويبوح بسره ممثلا فى سنبلته التى فيها مائة حبة أو أضعافها كما يشاء الخالق الأعظم ـ
حينها وكنا تلاميذ وطلابا تكون تباشير الربيع تمنح الدنيا بصمة الجمال وقبلة الحياة والانطلاق؛أشجار قد تخلصت من أوراقها الذابلة واكتست أخرى فتية خضراء وصفراء وحمراء فى لوحة فسيفسائية متداخلة متمازجة متماوجة معجزة التكوين والنسبية تأخذ بالأبصار وتأسر الألباب وتختلط بأنفاس الصباح فيختلط المرئى بالمسموع بالمستنشق ،
ويغلف الكل ضياء الصبح يلم أستار الليل عن القرية الناهضة ليوم جديد وكفاح لذيذ لا ينتهى.
فى تلك الأجواء كان استعدادنا صغارا للامتحانات وقد توقفنا عن الدرس بالفصول وبدأ كل منا أمتاره الأخيرة فى نهاية عامه الدراسى .
أهاج تلك الذكريات فى ذاكرتى اقتران موسم الحصاد هذا العام مع موجات الحر وشهر رمضان المعظم، أهاجت تلك الذكريات طقوس موسم حصاد القمح قديما بالآلات البدائية للفلاح المصرى التى ظلت تصاحبه منذ مئات بل ألوف السنين وتغيرت تماما خلال الثلاثين عاما الماضية،
وتذكرت العناء الذى كانت القرية تعيشه رجالا وشبابا ونسوة حتى يصل القمح مخازنه بعد أن يتم ضمه ـ هكذا كان يسمى حصاد القمح ـ بالمناجل ودرسه بالنورج قديما بعد رصه فى مدارات دائرية ويتم درسه بالنورج حتى يكون مهيأ بعد ذلك للتذرية ب”المدرة” وكانت أداة ذات يد طويلة وأسنان خشبية أو معدنية تشبه تماما الشوكة التى نأكل بها ،
وكان يتم إعداد الجرن فى مساحة خالية من الأرض وتنكش كومة القمح المدروس من أسفل لأعلى ليحملها اتجاه الريح ويرسو التبن الخفيف فى جانب وحبات القمح الأثقل فى جانب آخر ليتم بعد ذلك غربلة القمح الصافى مما كان يسمى “القصلة” ـ بفتح القاف وسكون الصاد ـ وهى بقية السنابل بعد درسها ، ثم نقله إلى الدور وتخزينه بالصوامع الصغيرة والتبن فى مقاعد مخصصة له للاستهلاك بعد ذلك فى تغذية الماشية.
وجاءت مرحلة أخرى للدراس بالماكينة ذات السيور وكانت تحتاج لمن يقوم بتلقيمها حزمات القمح لتقوم بدراسه وفصله ،ولا أنسى مشهد الرجال حولها والحر يلفحهم وصوت الماكينة ولهيبها صعب الاحتمال فى جو خانق ،فإذا تصورنا تواكب موسم حصاد ودراس القمح مع الصيام وفى عز القيلولة وعطش الصوم وجوعه، مثل عامنا هذا،
أدركنا كيف كان الريف مصنعا للرجال الأشداء الذين يستهينون بالصعاب ولا يأبهون لحر لافح ولا برد قارس ويتعايشون مع الصيام والحر والعمل القاسى والأتربة الناجمة عن عملية الدراس يطيرها الهواء ملتصقا بها ذرات دقيقة من التبن ،والعطش على أشده والريق جاف كالحطبة كما يقولون كل ذلك وهم صائمون لاسبيل أمامهم لترطيب هذا الجفاف وذلك الجو المتلظى سوى قليل من ماء القنوات الصغيرة يرشون به وجوههم أو يمسحونها ببقية قطرات ماء عالقة بها او على الأكثر ماء الوضوء، وفى نهاية اليوم تكون الترعة مستقرا للأجساد المنهكة العارقة المتعطشة فى عز القيلولة إلى شربة ماء، ولكن هيهات فالصوم حاكم رادع للجميع والرجولة تولد في مثل تلك الأجواء ، كنت أراهم رجالا شدادا يربطون على بطونهم وأوساطهم ليشدوا أزرهم لا ليتراقصوا كما يفعل بعض الأبناء والأحفاد بملابسهم الساقطة ليقلدوا بها الأسطورة والبرنس وعبده موتة ومطرب الحمار وبقية سلسلة ما رمتنا به الفضائيات من كل ألوان الهدم لثوابتنا وأخلاقنا تحت ستار الفن.
أتذكر الريف والغيط وهو يصنع الرجولة فى بوتقة تنصهر فيها حبات العرق مع الجوع والعطش بفعل الحر والقيظ الشديد فى عز الصيام، لكن للصيام في نكلا أيضا وجوه أخرى للمتعة تحتاج لنعكشات مقبلة إن شاء الله.
Discussion about this post