الشيخ الشعراوى شاعراً
بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
رحم الله الإمام الشيخ محمد متولى الشعراوى الذى ملك أفئدة وعقول متابعيه فى خواطره حول القرآن الكريم التى أصر على أن يسميها خواطر ولم يسمها تفسيرا اعترافا منه بجلال القرآن الكريم ،وتلك من مآثر الكبار الحقيقيين الذين يتواضعون ولا يدعون عظمة أو تيها بين الناس ممن يرى بعضهم نفسه كما قال المتنبى عن نفسه “…لآت بما لم تستطعه الأوائل” ،يسبغون على أنفسهم ألقابا فخمة ضخمة تكاد نفوسهم تنفجر من بين أضلعهم وتتفرق ذرات تصيب الجميع باتهامهم بالدونية والعجز عن عبقرية ذلك المنتفخ الأوداج المنتفش الريش الظانّ بنفه خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا ، فما أحراهم بأن يتركوا للناس حق تقديرهم وتفخيمهم بما يستحقون فعلا وبما يمثلونه فى أعين الناقدين المحققين !
الشيخ الشعراوى رحمه الله قدم فى خواطره مامزج فيه بين جذور التفسير وعصرنة الفهم والتأويل وجزالة اللفظ اللين البليغ الواصل إلى جميع متابعيه،وهو فى ذلك كان يبدو ملهما وهو بجلسته الشهيرة بين مجالسيه يلين لهم صعب الألفاظ ويقدم لهم سهل المعانى ويضرب للعالمين آية اخرى من آيات إعجاز القرآن الكريم وتواصله عبر القرون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومما يذكره الناس للشيخ الجليل ما اقتبسوه من جملة أقواله بعد مماته بأكثر من ثلاث عشرة سنة مع قيام ثورة 25يناير 2011، ليصبح تعبيرا عن حالة عاشتها مصر ،وقد قالها وهو يفسر إحدى آيات القرآن الكريم متحدثا عن الرسل والأنبياء وحكمة إرسالهم من قبل السماء” قد يثور المدنيون حتى ينهوا ما يرونه فساداً، ولكن آفة الثائر من البشر أنه يظل ثائراً، ولكن الثائر الحق هو الذى يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبنى الأمجاد ولا يسلط السيف على رقاب الجميع”. وبطبيعة الأمور فتلقى هذه المقولة والتوافق معها يتباين من شخص لآخر ومن مجموعة لأخرى تبعا لمأرب كل منهم وتلك قاعدة من قواعد الاختلاف فى الحياة.
وقد يعرف كثيرون أن الشيخ الشعراوى نظم الشعر فى شبابه وبعض من صدر حياته العملية ، لكن لعل كثيرين لا يعرفون فى أى المجالات نظم شعرا وأطلقه للعامة ، ففى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى – كان الشعراوى حريصا على حضور الصالونات الثقافية مثل صالون العقاد وصالون أمير الشعراء أحمد شوقى، وصالون الموسيقار محمد عبدالوهاب، و كان يلتقى فيها مع كبار الأدباء والشعراء وقادة الفكر. وتلك الفترة بالتحديد كان لها تأثيرها فى إنضاج موهبته كشاعر، وإن كانت هذه الموهبة قد ظهرت قبل ذلك، وله ديوان (الباكورة) وديوان (من بنات الفكر) وأشعار كثيرة متفرقة لم تنتشر فيهما ولم يهتم بنشرها.
وكان أطول مانظمه شعرا بالفصحى قصيدة فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو لم
يجاوز السابعة عشرة من عمره، وهى بعنوان (الباكورة) ويبدو متأثرا فى اختيار قافيتها بقصيدة ولد الهدى لأمير الشعراء أحمد شوقى الذى كان يحبه الشعراوى كثيرا ، ومما يؤثر عنه فى ذكر شوقى أنه كان يقول عنه قولوا شوقى رضى الله عنه فوالله لم يمدح النبيَّ شاعرٌ مثل ما مدحه شوقى :
أبا الزهراء ، قـد جاوزت قدرى بمدحـك ، بَيْـدَ أنَّ لي انتسابا
مدحـتُ المالكين فزدت قــدرا وحين مدحتك اجتزتُ السحابا
ويضيف الشيخ الشعراوي رحمه الله : ولم يدافع ويشرح ويوضِّح حقائق اﻹسلام مثل شوقى وهو الذى جمع مبادئ اﻹسلام فى بيت واحد فقال :
والدين يـُسرٌ ، والخـلافة بـَيعة والأمر شورى والحقوق قضاء.
وحكى الشعراوى عن بشارة تلقاها شوقى فى أيامه اﻷخيرة حيث فوجئ بخادمه يخبره أن فضيلة الشيخ محمد اﻷحمدي الظواهري شيخ الجامع اﻷزهر يريد لقاءه فهب شوقى واقفاً وهرول للقاء اﻹمام اﻷكبر فلما قابله ورحب به سأله عن سبب تشريفه بالزيارة، فكان جواب شيخ اﻷزهر : جئتك مأموراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد زارني النبيُّ صلى الله عليه وسلم الليلة الماضية وأمرني أن آتي إليك وأخبرك أنه صلى الله عليه وسلم فى انتظارك !! .وبعدها بأيام قليلة توفي شوقي 14 من أكتوبر 1932م.
ويقول الشعراوى فى قصيدته “الباكورة:
يا ليلة المعراج والإسراء………. وحى الجلال وفتنة الشعراء
من ذا الذى يحظى بما استعصى على………. موسى وعيسى صاحب الإحياء
لا غرو إن كانت كعاب محمد ………. إن العظيم يكون للعظماء
الله فضّله على كل الورى………. أهداه خير العقل والآراء
هو سيد الثقلين المصطفى………. «يس» أكمل من على البطحاء
هو شبل عبد الله فى أقوامه………. هو سبط مُطلب حيا الصحراء
هو زهرة من آل هاشم نفحها………. نور الهدى هو دعوة استجداء
أهدى بك الدنيا لتصلح أهلها………. يا رافع الفقراء والبؤساء
لك معجزات يا محمد سطرت………. رفعت مقامك فوق كل لواء
كما كانت له قصيدة كتبها فى استقبال شهر رمضان كان يرددها دائما كلما استقبل الشهر الكريم يقول فيها:
يا طبيب النفوس أهلا وسهلا……….أنت فقت الشهور زهوا ودلا
أنت للداء داؤه حيث حلا……….إنما الذل فى صيامك أحلى
تكبح النفس عن ورود المعاصى……….ولكل القلوب تقوى وعدلا
وقصيدة أخرى كان يعتز بها ويترنم بها يقول فيها:
حسب نفسى عزا أنى عبد………. يحتفى بى بلا مواعيد ربى
هو فى قدسه الأعزّ ولكن………. أنا ألقاه متى وأين أحب
وكتب الشعراوى قصائد متنوعة فى صدر شبابه مدحا فى الملك فاروق حين أصبح وليا للعهد وحين صار ملكا ، كما كتب قصيدة فى استقبال الدكتور طه حسين فى الأراضى المقدسة 1955، والتى زارها كرئيس للجنة الثقافية بالجامعة العربية، فى الوقت الذى كان فيه الشعراوى عضواً ببعثة الأزهر بالمملكة العربية السعودية فألقى قصيدة فى تحية عميد الأدب العربى مكونة من 112 بيتاً. . منها:
يا عميد البيان أنت زعيم بالأمانات أريحىّ الأداء
وإذا القوس أعطيت من براها فارتقب موقناً سديد الرماء
لك فى العلم مبدأ طحسنى سرى فى العالمين مسرى ذكاء
يجعل العلم للرعية جمعاء مشاعاً كالماء بل والهواء
فمن الغبن أن يوفر قوت لجسوم والروح دون غذاء
لك أيدٍ على المعلم فى مصر أزاحت عنه عنيف العناء
وقرت مهنة المعلم حتى صيرتها رسالة الأنبياء
وهوان التعليم فى أى شعب أن يرى غارسوه كالأجراء
يا فريد الأسلوب قد صغته من نغم ساحر شجى الغناء
كلمات كأنهن الغوانى يترقرقن فى شفيف الكساء
مشرقات ما انقدن إلا لطه صاغها الفن من حروف الضياء
ولم ينقطع الشعراوى عن مشاعر الإنسان العاطفية كأى بشر له مشاعر وأحاسيس تجاه الجنس الآخر،وقد كتب قصائد كثيرة فى الغزل يقلد بها الشعراء القدامى ويثبت بها موهبته، من ذلك قوله:
ومن لم يزلزله الجمال فناقص تكوينه وسوى الخلق الله من يهوى ويأذن دينه
وقوله أيضا :
سبحان من خلق الجمال والانهزام لسطوته ولذاك يأمرنا بغض الطرف عنه لرحمته
وقصيدة ثالثة يقول فيها:
يا لائمين فؤادى أقصروا عتبا فالقلب للحب مفتوح ومنبثق
وقصيدة رابعة يقول فيها:
أعيش لها عبدا وتحيا مطاعة فإن مت يا قومى ومنطقت بالترب
فقوموا امنعوها حقها من تراثه فقاتل هذا الميْت يُمنع بالحجب
وواضح فى البيت الأخير تأثره بقاعدة شرعية فى المواريث تمنع القاتل من أن يرث القتيل وهذا هو (الحجب) فى الفقه.
وفى قصيدة خامسة يقول:
لما تناءت عن حبى دنا الأرق وعز فى وحدتى أن يطلع الفَلَقُ
آوى إلى مضجعى جمرا كأن به شرك القتاد وعظمى منه يخترق
وارحمتاه لصب بات فى بلد وقلبه فى سواها بات يحترق
يا رب عبدك فارحمه فإن له قلبا بحب العذارى القيد ملتصق
رحم الله الشيخ الشعراوى الذى اجتمع حوله فى حياته وعلى علمه وإشراقاته بعد مماته الملايين فى كل أنحاء العالم العربى والإسلامى يستمتعون بما أفاء الله به عليه من أفضال روت عطشهم فى فهم كتاب الله الكريم.
Discussion about this post