بقلم الكاتب الصحفي … سعيد الخولى
رغم قلة عدد شهور رمضان التى قضيتها ببلدتى نكلا العنب إلا أن هناك كثيرا من الحكايات التى ارتبطت بها فى ذاكرتى،وقد طلب منى عدد من الأصدقاء أبناء نكلا العنب الحبيبة أن أروى ماعندى من تلك الذكريات،والحق أن تلك الحكايات منها ماعايشت تفاصيله كاملة ومنها ما عايشت جزءا منه ،وبالطبع حين نذكر رمضان وحكايات رمضان فلابد من أن يكون للمسحراتى دور واضح فى تلك الحكايات فقد كان المسحراتى فى أوائل سبعينيات القرن الماضى واحدا من أبطال رمضان الذين يرافقون لياليه الثلاثين حتى يكون مروره بدور القرية صبيحة أيام العيد لينال من أهالى القرية مايجودون به من كعك وبسكويت مما خبزوه لأنفسهم،خاصة أن المسحراتى عادة مايكون ـ فى كل البلدان والقرى بل المدن أيضا ـ رقيق الحال .
المسحراتى فى تلك الفترة منذ نصف قرن أو يزيد كان البطل الأول لإيقاظ الناس للسحور،فقد كان النوم المبكر هو سيد الموقف عقب صلاة التراويح بساعتين أو ثلاث على الأكثر خاصة فى رمضان الشتاء المبكر وسحوره المبكر أيضا، فلم تكن الكهرباء قد دخلت القرية ،حيث كان دخولها منتصف السبعينيات بما جلبته من نور أضاء شوارع القرية وأزقتها الضيقة وحواريها المتوسطة، ونار اصطحبتها معها كل المخترعات الترويحية وعلى رأسها التليفزيون وتوابعه التى قلبت حال القرية رأسا على عقب،وتغلبت فى كثير من الأحيان سيئاتها على حسناتها بما أشاعته بين الناس من قيم جديدة تحت بند التوعية والتنوير فجرحت ماكان ساكنا مطمئنا من تقاليد كثيرها طيب وقليلها كان فى حاجة للتغيير،لكنه الوعى الغائب غالبا والأمية التى كانت سيدة الموقف والجهل بالتفرقة بين التغيير الإيجابى والثورة العارمة على كل الثوابت، فضلا عن الرغبة المستعرة بتقليد المدينة وتلك النقطة دائما كانت حجر الزاوية فى كل تغيير سلبى أصاب القرية ودمر استقرار نفوس الناس وعلاقاتهم الاجتماعية.
كانت أمسيات القرية بعد الإفطار ثم التراويح لاتخرج عن السمر البرىء بين الصغار بألعابهم المتوارثة كالاستغماية أو اللهو بفوانيسهم البدائية في الحوارى والأزقة الضيقة، والمجالسات الحميمة بين الكبار على المصاطب أمام الدور الطينية، كان مجتمع المصطبة الملاصقة لباب الـدار يدور فى ذلك الفلك العائلى بين كبار العائلة والمعارف بعد التراويح مع اختلاف فصول السنة التى كان يوافقها رمضان ما بين ليالى الربيع والصيف وبعض أمسيات الشتاء الجافة، وما كان أندرها آنـذاك وقت كان جو مصر كما درسناه فى الجغرافيا دفيئا ممطرا شتاء جافا حارا صيفا..دائرة مجتمع المصطبة أمام دار العائلة كانت تضم جدى وشقيقه عبد المجيد وشقيق جدتى صمادة عاشور وزوج شقيقة جدتى خليل علاء الدين رحمهم االله جميعا، والجيل التالى من الأبناء عمى السيد وعمى صلاح، ثم نحن الأحفاد. ومـابـين سجائر جـدى وشقيقه عبد المجيد وشقيق جدتى وزوج شقيقتها ودخانها الحامى كانت الأمسيات تمضى مغمسة بحوارات جادة فى شئون الحياة وضاحكة فى شئون الأفـراد مليئة بالقفشات والهزار العفيف ..علبة الدخان اللف كانت ضيفا دائما على جيوب الصديرى تمتد إليها الأيادى كلما امتدت الحصيرة تستقبل ضيوفها كل ليلة، وبراد الشاى يكاد لايتوقف داخل الدار فوق الكانون أو المنقد، كل كانت القوالح الحمراء المتقدة وقودا للجوزة التى يدمنها عمى، ويتناوبها من يدخنونها معه ولا يشربون سجائر اللف.
كنت أتابع أصابع جدى ورفاقه وهم يتناولون بعضا من أوقية الدخان أم نصف ريال ويضعونها بحرفية كبيرة فى ورقة البفرة الرقيقة، وتنوب أصابعهم عن ماكينة اللف لتخرج السيجارة فى النهاية بشكل مميز دقيقة عند المبسم أكثر التفافا وسمكا عند الفوهة فإذا أتم الواحد منهم لف السيجارة بلل بطرف لسانه طرف الورقة فى نهايته ولصقه ببلل ريقه ليبقى آخـر طـرف الورقة مثلث الشكل فيقتطعه بدقة، ويشعل السيجارة بولاعته العتيقة التى ما أزال أذكر شكلها البنى القاتم، وتخرج الأنفاس حاملة سحائب الدخان من المصطبة ومجتمعها إلى الشارع والمارة أو الجالسين على مصطبة الرشيدى المواجهة للدار.. وأحيانا فى ليالى رمضان التى كانت توافق الصيف ما يكون رفيق جلستهم الجد عبد الحميد شقيق جدى الذى كان مستقرا بالزقازيق وكان يزورنا فى الصيف، لكنه كان يجلس قبالتهم على المصطبة المواجهة هربا من دخان السجائر والجــوزة. أما نحن الصغار فكنا بين لهو تارة وجلوس تارة أخرى نتابع بعض مايدور ونسمع حكاياهم وقفشاتهم، وقد أمسك زوج شقيقة جدتى المرحوم خليل علاء الدين بمغزله وبعض من صوف الغنم الذى يصطحبه فى كيس ليغزل بعضا من الخيوط وينسجها بعد ذلك طاقية أو تلفيحة بلون الصوف أبيض كان أم أسود أم بنيا.
هذه الجلسات لم تتغير تقريبا مابين رمضان وغير رمضان سوى فى توقيتها بفعل وقت صلاة التراويح ،ولم يكن يصاحبها من ترفيه سوى إضاءة الكلوبات فى دكاكين الشارع العمومى الرئيسية وقتها عند المرحوم سعيد قطارة ودكان جمال زاهر الشهير بين أهل القرية بجمال الأسوخ ودكان المرحوم صلاح زعتر،ومن هنا أو هناك بعض من الحلوى كالبسبوسة أو الهريسة من دكان سعيد قطارة رحمه الله وفى الخلفية الصوتية الثابتة المسموعة بالشارع صوت ترتيلات وتجويدات متتالية للقرآن الكريم بأصوات أساطين القراءة وقتها وحتى وقتنا الحاضر محمد رفعت والحصرى وعبدالباسط والمنشاوى والطبلاوى وعبدالعزيز حصان رحمهم الله جميعا،وبعض من الترفيه مع برامج رمضان الإذاعية الشهيرة وقتها حتى الوصول إلى صوت زوزو نبيل مع ألف ليلة وليلة وقد كان صوتها موغلا فى الخيال والإيحاء بالرعب مع ظلمة ليل القرية،ومع جملتها الشهيرة :وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح ،تكون نهاية السهراية البريئة ويتفرق الجمع الذكورى إلى مخادعهم لنيل قسط من النوم قبل أن ينطلق موكب مسحراتى القرية بطبلته ومرافقيه ومن ينضم لهم من الأطفال يشق صمت الشوارع ويقضى على هدوء الدور بعدما تكون الأمهات قد أعددن مايتناوله أهل الدار،ولتنشط من جديد أصوات المقبلين على السحور من الرجال والصبية والأمهات والبنات.
Discussion about this post