إبداع فني جديد بقلم حسين غسان مصطفى
انتظر السوريون كثيراً عملاً درامياً ليس فقط يُحاكي واقعنا المعقد وإنما بإظهار إمكانياتنا وقدراتنا على صنع حبكةً وصورةً لا تقل أبداً عن أفلام هولييود والسينما الأمريكية والعالمية…
المفاجأة الكبرى لم تكن بحرفية العمل فقط، بل بصاحب اللمسات الأخيرة والتي تعد هذه تجربته الإخراجية الأولى! هو: السدير مسعود، سوف أتكلم عن بعض الامور المهمة في هذا العمل ولن أتلكم عن فكرة المسلسل بشكل مفصل منعاً لحرق المشاهد…
منذ بداية الأزمة السورية أخذ صُناع الدراما يتخبّطون هنا وهناك بحثاً عن عمل يليق بعقلية وفكر الدراما السورية العريقة، وهذا مع الأسف الشديد أنتج لنا العديد من الأعمال السخيفة والتسويقية في آخر السنوات، وهذا أدى لنفاذ صبر المشاهد والمتلقي السوري…
فأخذ المشاهد ينتظر الدكتور ممدوح حمادة تارة، والمخرج الليث حجو تارة، والكثير من كبار الدراما السورية المعروفين والذي لاداعِ لأن نتحدث عنهم أصلاً، الى أن قَفَزَ اسمٌ جديد، بتجربته الأولى، مع أسماء (هوليوودية) في مسلسه ذو ثمانِ حلقات، قفز بالدراما السورية من الحضيض الذي كانت فيه (آخر السنوات على الاقل) الى العالمية وبدون أية مبالغة!
هذا يثبت لنا أن السدير وطاقم العمل كانو على أتم الاستعداد، وكانت لديهم الأمانة الدرامية التي وصلت إلينا بكل سلاسة، لم نشاهد أبداً ولا حتى ثانية واحدة كان فيها حشو او مشهد زائد لزيادة وقت الحلقات، هذا بالضبط مانفتقده في الدراما السورية منذ مدة طويلة وبالأصح منذ آخر اعمال الراحل ( حاتم علي ) وعلى رأسها “”حلام كبيرة”
التفاصيل في هذا المسلسل تختصر بعبارة ( المتعة البصرية والسمعية ) لم أجد سوى هذا الجملة للتعبير عما شاهدت، فالحوار كان سريعاً كما الكاميرا، وكأن الخطر في كل مكان، وتداخل الالوان المريبة امر يحسب له خصوصاً اللون الأصفر في مشاهد سمير والتي تعبر في السينما عن الغرابة والاضطراب والخوف، الموسيقى لا تُلحّن وانما تتكلم، الموسيقى كانت جزء حقيقي في الحوارات والمشاهد الاجرامية والحاسمة، أما عن الأداء التمثيلي فكيف يمكنني أن أصف باسل خياط وعبد المنعم عمايري عندما يكونو بطلاً واحداً في العمل!!!
إن أكثر النقاط عبقرية في هذا
سمير شخصيّة في غاية التعقيد والتركيب, فهو واحد من أولئك المَنسيّين الذين تدوسهم الحياة كلّ يوم وتحطّمُ أحلامهم ومخطّطاتهم دون أدنى اكتراث, يعيش حالة فقر يصعبُ وصفها, فسمير ومن في حالته نسَفوا المثل الشعبي القائل: ماحدا بيموت من الجوع.
بل على العكس تماماً, سمير يمكن أن يموت جوعاً بكل بساطة, فهو يعيش حالةً مستمرّةً من مطاردة قوت يومه بلا انقطاع, واليوم الذي لا يعمل فيه لا يأكلُ فيه.
وبالتالي فليس لدى سمير رفاهيّة القراءة والاطّلاع على النتاج الفكري العالمي, وليس لديه بطبيعة الحال رفاهيّة مشاهدة الأعمال الفنيّة ليثقّفَ نفسهُ بصريّاً, فحصيلته المعرفيّة مقتصرة على تجاربه الشخصيّة التي تنحصر في سوق العمل الذي يُعامَل فيه كعبد ضعيف, فتحوّل سمير لعبد بكل ما تعنيه الكلمة.
شخص في قمّة الدروشة والبراءة والضعف, ريشة تتخطّفها الرياح العاتية يميناً وشمالاً, وكما يُقال في العامّية: (كلمة بتاخدو وكلمة بتجيبو) أي أنّه يتلقّى الأوامر والتوجيهات وينفّذها دون اعتراض.
هذا هو سمير الذي جسّده عبد المنعم عمايري بصدق غير مسبوق, واستطاع إيصال كلّ هذه التفاصيل في حلقات لا يتجاوز عددها الست حلقات (كُتب هذا المقال قبل أن يكتمل عرض المسلسل) ومن تنبّه للتفاصيل الدقيقة التي يلعبها عمايري في المسلسل, كالتعلثم في الكلام واختيار الكلمات وأسلوب المشي والحركات والنظرات سيُدرك ما أقول.
فمن خلال متابعة مسيرة عبد المنعم عمايري (التي أرى أنّها مسيرة يجب على كلّ مهتم بفن التمثيل أن يدرسها ويتعمّق فيها) نرى فيه طينة فريدة وتركيبة نادرةً قلّ نظيرها في عالم التمثيل, فهذا الرجل لا يؤدّي أدواره بل يعيشها ويتقمّصها, يتحوّل بشكل كامل ليصبح إنساناً آخر, شكلاً ومضموناً بطريقة يصعب فهمها أو استيعابها.
المسلسل واحد من أفضل الأعمال السوريّة في السنوات العشر الأخيرة, وهو يتّبع أسلوبا سرديّاً وإخراجيّاً مختلفا نحن بأشد الحاجة إليه للخروج من الأساليب القديمة البالية التي لا تزال معتمدةً في الدراما السوريّة, وسأتحدّث عن العمل بالتفصيل بعد انتهاءه في مقالات على الصفحة وحلقات على قناة اليوتيوب.
– ملاحظة: أثار العمل جدلاً واسعاً بسبب بعض اللقطات, وخاصّةً اللقطة التي تصوّر سمير في الحمّام.
أولا – شخصيّأً أرى أنّه لا داعي لهذه اللقطة فهي لم تضف شيئاً لسير الأحداث أو البنية الدراميّة لشخصيّة سمير (وقد يستعمل بعض المخرجين هذا النوع من اللقطات بهدف تقريبنا من الشخصيّات وتوطيد تعاطفنا معها وتقريبنا منها, فمسلسل Breaking Bad مثلا طافح بلقطات تستحم فيها الشخصية الرئيسيّة بهدف تقريبنا من والتر وايت وإضافة حميميّة بين المشاهد والشخصيّة) ولكن في مسلسل قيد مجهول أرى أنّه كان من الأفضل تجنُّب هذه اللقطات التي يستهجنها الجمهور العربي عموماً واستبدالها بأساليب مختلفة.
ثانيا – المسؤول الرئيسي عن هذه اللقطات في الأعمال الفنيّة هو المخرج ومدير التصوير لا الممثل, ولكن يقع الهجوم على الممثّل كونه الأقرب للجمهور وهو من يقف أمام الكاميرا.
ثالثا – انتشرت أقوال للفنّان عبد المنعم عمايري يصف بها الجمهور بال “بقر” بسبب الهجوم الذي تلقّاه, وقد نفى عمايري هذه الأقوال وتبرّأ منها في إحدى المقابلات, وقال أنّ الذي نشر هذه الكلمات هو شخص يتقمّص شخصيّة عمايري من خلال صفحات وهميّة, فوجب التنبيه.
Discussion about this post