- بمناسبة مرور 4 سنوات على رحيل الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور.
قراءة في قصيدة
“سؤال شخصي إلى القدس”
للشاعر أحمد دحبور
بقلم / أيمن دراوشة – ناقد أدبي
عبر الشاعر في قصيدته عن هم وقلق المكان وهواجسه، وعواطفه كلها متجه ومرتبطة بفلسطين الذي لا يعرف الشاعر وطن سواها.
إن تجربة الشاعر لم تبتعد عن الحلم بالوطن المحرر، وعبر من خلال شعره عن مخاوفه من فقدانه كله أو جزئه.
في البداية خلَّفت النكبة ومن ثم النكسة أثارًا لا تُمحى في نفسية الشاعر، وظهر هذا في بداياته الشعرية (الضواري وعيون الأطفال سنة 1964، وحكاية الولد الفلسطيني سنة 1971، طائر الوحدات سنة 1973) إذْ ظهر صداهما في شعره من خلال تطرقه إلى اللجوء والنفي القسري، والإحساس بالاغتراب والضياع، والغضب العارم والاحتفال بالثورة المنطلقة من بين أوساط اللاجئين المحرومين.
وُلد الشاعر في مدينة حيفا في عام 1946 وتوفي في 8 نيسان 1971 تاركًا خلفه العديد من الدواوين الشعرية التي خلَّدتِ الثورة الفلسطينية، والأحداث الكبرى التي مرت بها.
وأول ما يلفت القارئ للقصيدة هو العنوان، وحاز العنوان في الآداب الحديثة اهتمام النقاد والباحثين، وبحثوا مدى تأثيره على النص الأدبي، ولقد اهتمت المدارس كالبنيوية والشكلانية به كل اهتمام، وأصبح لا مناص منه من أجل الدخول إلى جو النص.
وتكمن أهمية العنوان في أنَّه مفسر لما يليه، فهو يساعد المتلقي على فهم النص ومعناه، ويمنحه الفرصة لمعرفة ما يتضمنه النص، والإيحاء به، ويواجه في الغالب المبدع صعوبة في اختيار العنوان لنصه، فالعنوان له وظائفه المهمة التي تشد القارئ وتغويه، كما أنَّه المفتاح الذي يفكك أسرار النص والدخول إلى عوالمه، ونجح الشاعر أحمد دحبور في اختيار عنوانه فهو من خلاله جذب القارئ؛ لما لمدينة القدس من مكانة كبيرة في نفوس القراء العرب، والعنوان أيضا مستوحى من النص صراحة.
يقول في قصيدته المنشورة في ديوان “من هنا وهناك” الصادر في عام 1997،
(ما الذي يجعل منك القدس؟
لا أسأل،
بل أدخل في سحر الجواب
ما الذي يجعل منك القدس؟
أسبوعك أيَّامٌ
وزيتونك زيتون
وفي أرضك، مما يطأ الناس، تراب كالتراب
فلماذا وحدك القدس،
وما دونك أسماء..قرى أو مدن؟)
فالشاعر من خلال العنوان ذكر اسم القدس صراحة وربطه بمسألة شخصية، فهو يبدأ قصيدته بسؤال يعرف إجابته، فما الذي يميز القدس عن غيرها إذا كانت أيامها عادية، وأشجارها كالزيتون موجود في غالبية المدن، وترابها لا شيء يميزه! ويتابع الشاعر استخدامه أسلوب الاستفهام في قصيدته لإثارة القارئ،
(ولماذا طارت الصخرة،
وانكبَّ عليك الدهر؟
فيك السطر يجري نحو أسطورته
والآدميُّ البكر يجري نحو معمورته
والجوهر الفرد يؤاخي بين غادٍ وغدٍ
فالحجر الطاعن يستيقظ عصفورًا
وتاريخًا يصير الزمن
ألهذا وحدك القدس؟
وما دونك أسماء..قرى أو مدن؟)
إنَّ القدس مدينة أسطورية، والذي يعرفها تعّلق في ذاكرته، ويبقى يحن إليها ما بقي على قيد الحياة، فالقدس جبلت من عناصر دينية وتاريخية وثفافية مما جعلها رمزًا مقدَّسًا. إنَّ القدس بالنسبة للشعراء الفلسطينيين والعرب تُعد هاجسًا، فالكل يرغب بشدة في الكتابة عنها، ولكنه يجد صعوبة كبيرة في إنجاز مقطوعة مميزة تليق بهذا المكان الفريد.
إِنَّ الشاعر يعي وضع القدس الاستثنائي كمدينة أسطورية ومقدسة ترزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي،
(ودَّ أن يخطفك الساحر
أو يحذف أوصافك سرُّ الكيمياء
وبصبر المكر في التاريخ
دالت دولة السحر)
إِنَّ الاحتلال الغاشم حاول ويحاول أَنْ يهوّد القدس بتغييره طبيعة المكان، وإعطاء الاسماء العبرية للشوارع والضواحي ومختلف الأماكن، ولكنه يفشل في ذلك،
(ولم ينحلْ نور الفجر في قارورة السرِّ
جيوش هُزمت
والتأمت كل جراح العمر
أو عادت ففاض النبع بالأحمر والزعتر
فيما برقت أسماؤك الحسنى على الأقواس
قدس، ويبوس
أورشليم، إيلياء
هكذا عاد إليك الأنبياء
وارتدى نجمك ثوب العيد صبحا
فاهتدى الأعمى إلى نار المجوس
هكذا شاب الهواء
وانحنى الأفق..
وما زلت العروس
هكذا الدنيا
هي الدنيا وأنت اللحظة العليا
وأنت الوطن
ولهذا وحدك القدس
وما دونك أسماء..قرى أو مدن
ولهذا سبَّح العيد فكنت اللهجة الأم لأبناء الدعاء)
فالقدس قادرة على هزيمة الجيوش، ويستذكر الشاعر الغزاة الذي أتوا إلى القدس ورحلوا، وما أَنْ التأم الجرح حتى فتح من جديد، فالغزاة لا يكفُّوا عن القدوم، وها هو الاحتلال الإسرائيلي يجثم على صدر المدنية ويغرقها بالدم، غير أَنَّ الأمل بهزيمة الغزاة الجدد لا يلين فوسط نبع الدم ينمو الزعتر معلنا الولادة من جديد.
ويظهر تاريخ المدينة العريق من خلال ذكره لاسمائها المتعددة، والأسماء الكثيرة للقدس يَدلُّ على علو مكانتها، فهي أور سالم أي مدينة السلام وهو أَقدم الاسماء للقدس ووضعه العرب الكنعانيون نسبة إلى إله السَّلام عندهم (سالم، أو شالم) فكلمة أور كلمة أصلها سومري وتعني مدينة، أما أورشليم فهو الاسم العبري للقدس العربية، (موقع المعاني http://www.almaany.com/)
واسم يبوس ورد (في لوحة من ألواح تل العمارنة، موجودة في المتحف المصري بالقاهرة، ويرجع تاريخ هذه الألواح إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أي قبل دخول العبرانيين إلى فلسطين). (موقع مسالك. http://www.almasalik.com/)
أَمَّا اسم إيلياء فهو اسم جاء (سنة 135 عندما غزا الرومان أَرض فلسطين عصر الإمبراطور الروماني “إيليس هدريان”… ويُقال إِنَّ معنى “إيلياء” بيت الله)، (موقع مسالك. http://www.almasalik.com/)
وبعد الفتح الإسلامي أطلق عليها اسم القدس أو بيت المقدس بمعنى الأرض المباركة، وهو الاسم الذي بقي لها حتى الآن.
إِنَّ المكان في الخطاب الشعري يختلف بالشكل والمضمون عن المكان الواقعي، فاللغة الشعرية تذهب للتجريد والتكثيف والبحث الدؤوب لإبداع صور ومعانٍ ودلالات رمزية وجمالية تنجح في الولوج إلى قلب المكان واكتشاف أسراره، وخباياه التاريخية والفكرية والجمالية. وتبقى اللغة متأثرة بالمكان (كهوية حاملة لأنساق). (جمال بند حمان. الأنساق الذهنية في الخطاب الشعري، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2011 )
هي لغة ثقافية يتم تشكيلها من خلال القصيدة، وتتكامل كخطاب شعري يحمل تصورات فكرية وجمالية مختلفة لنقل تجربة ذات أبعاد روحية وثقافية تتجاوز الواقع من خلال الخطاب الشعري المرسل إلى قارئ يعي هذا الواقع.
ويلمح الشاعر إلى عودة الأنبياء إليها في حادثة الإسراء والمعراج، إذْ تقول الحكاية أنَّ الأنبياء حضروا إلى القدس ليؤم سيدنا محمد بهم في القدس، لذا فالقدس مدينة الأنبياء التي بمقدورها هزيمة الزمن، وستبقى فتية كعروس. ويضيف الشاعر:
(غير أنَّ الصبح طفل يسأل
والهواء المتمادي يسأل:
إنْ تكوني لشعوب الأرض مفتاح السماء
فلماذا لستِ لي أرضًا وأرضي أنت
واسمي كان منقوشًا على حزنك
منذ الدمعة الأولى على السيف
إلى أبعد برق في الفضاء؟
ليس ما يطلبه الجرح ضمادًا
ليس إلا ما يؤلم الخلق من الجرح
وجرحي ألم صار بلادًا
إنه يصرخ: يا..
لكنّ ريحا صرصرًا تذرو وتجتاح المنادي)
إنَّ القدس مدينة عربية عبر التاريخ، وهي بوابة الأرض إلى السماء، وهنا يتداخل الهم الشخصي مع الهم العام، فالقدس وإنْ كانت من مدن وطن الشاعر إلا أنه يمنع من دخولها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، الذي سرقها وسيَّجها بالأسلاك الشائكة وأحاطها بالجنود المُدجَّجين بالأسلحة لحمايتها من سكانها الأصليين.
(والذي يجعل منك القدس
أنَّ العرس محمول على الجرح
وهذا فرحي يختال في الموعد
لكن خطفوا مني العروس
أكل الساحر من مزودة الحارس واستولى على كل الطقوس
فإذا الليل تهادى
خرج الحارس من خاصرة الصخرة
والتفَّ على المهد ونادى:
يا يبوس
أورشليم
إيلياء
قدسي الأقدس، قدَّاس الضياء
ها أنا بين يدي أمي
ويدعو لي أبي
لكنني وحدي اليتيم
لم يزل جرحك عرسًا وحمامًا يهدل:
طال في الغربة ليل الخيل والأطفال
هل متسع، بعد، لأطفال الحمى أن ينزلوا؟
ما الذي ينزف من هذا المدى؟
هل هو قلب مثخن أم أمل؟
إنه يصرخ: يا..)
استخدم الشاعر أسلوب التكرار في قصيدته ليعبر من خلاله عن أهمية القدس، ومكانتها العظيمة في نفسه، فالتكرار هو علامة من علامات الجمال والتزويق، وليس ذلك فقط، فهو يعكس جزءًا من الجانب النفسي والعاطفي، الذي لا يمكن استيعابه إلا من خلال تحليل أسباب تكرار الشاعر لمفردة أو جملة معينة، لأنها مشبعة بالدلالات النفسية والعاطفية.
وقد يكون التكرار بحرف أو مفردة أو جملة أو بيت شعري كامل، فالتكرار وهو إعادة اللفظ يتضمن نزعة موسيقية وشحنة معنوية تلح على الشاعر في التكرار.
إِنَّ لجوء الشاعر لتكرار البيت يوحي بالأهمية الكبيرة لمحتوى الألفاظ، فالجملة المكررة تساهم في فهم المعنى الذي أراده الشاعر، وللتكرار وظائفه فهو تأكيد على معنى معين يريد الشاعر ترسيخه في ذهن المتلقي، كما أنه يحقق الانسجام في الإيقاع الداخلي مما يهب القصيدة الموسيقى العذبة المثيرة. فهو يكرر تساؤلاته وأجوبته ليرسخ معنى القدس في نفسه ونفوس المتلقين.
في القصيدة الاحتلال الساحر استولى عليها في غفلة عن الحراس، وملأ سماءها بالجراح والدم وهي مدينة السلام التي لم تعرف السلام فالاحتلال يجد دائمًا الفرصة للإيغال في ظلمه وجبروته، فهي جرح نازف لا يتوقف بانتظار عودة أهلها المشردين،
(والوعد أن ينقله الرعدُ ويرعاه السحاب
هو لا يسأل يدخل في سحر الجواب:
ما الذي يجعل منك القدس غيري؟
أنت مهدي، صخرتي
ميلاد إسرائي
وإسفلت سماويٌّ لطيري
ولهذا أنتِ حكمٌ بالعذاب
وأنا المحكوم بالعودة..)
إِنَّ قلب الشاعر النازف ما زال يتمسك بالأمل، فالقدس مهجته وصعوده إلى السماء، ورغم العذاب والألم فليس للشاعر طرق آخر غير الطريق المؤدي إلى القدس.
إِنَّ القدس هنا هي الحلم التي شكلها الشاعر بواسطة اللغة المحكومة بالتجارب الإنسانية والخيال ليستطع الشاعر تجاوز الواقع المأساوي، فالمكان هو (وجود فني ومادي أصيل وعميق مرتبط بالوجود الإنساني خصوصًا إذا كان المكان هو وطن وانتماء مشيمي بدئي يرتبط بالمكان الأول). (اعتدال عثمان: إضاءة النص، دار الحداثة، بيروت، 1988) إِنَّ صورة القدس في شعر أحمد دحبور لها أبعاد نفسية وفكرية وفلسفية، فهي كمكان مقدس ودافىء شكلت أحد أهم الأبعاد الفنية والبنائية في لغته الشعرية، ومن خلال القدس تغلغل في خباياها الوجودية والنفسية، إِنَّ القصيدة تتضمن بعد روحي ونفسي عبر عنه الشاعر بمخيلته، فالقدس في النهاية جزء من وعي الشاعر، وثقافته فهو لا ينتمي إلا لها.
استطاع الشاعر أحمد دحبور من توظيف القدس كمكان بكل ما تحمله المدينة من حمولات ثقافية وفنية ودلالية مما انعكس ذلك بالإيجاب على لغة القصيدة، إضافة الى ما يمتلكه من شعرية عالية ساهمت في إعطاء بعد جمالي، وتناغم وانسجام مابين الصوت والإيقاع، وبحق إنَّ مجموعة الشاعر (هُنا هُناك) تُعد واحدة من المجموعات الشعرية العميقة والمميزة.
Discussion about this post