الأديب كمال العرفاوي
يكتب * ٌأوْبة *
كان يفكّر بجدّية في الإقلاع نهائيا عن شرب الخمر، فقد
كره مذاقها، و لم يعُد يستسيغ مجرّد رؤيتها أو التّمتّع بنشوتها، فقد كانت بقلبه بذرة صالحة بدأت تنمو شيئا فشيئا مع كلّ يوم وليد، حتّى أنّه كان كثيرا ما يستغفر ربّه، كلّما كان يجلس مع أصحاب السّوء، و يتوقّف مباشرة عن معاقرة النّبيذ بمجرّد استماعه لصوت الأذان مناديا عباد الرّحمن للاستعداد للصّلاة، و تلبية نداء اللّه للفلاح، فتسري في جسمه قشعريرة لا يعرف كُنْهها و لا يستطيع فكّ شَفرتها و مغزاها، و يشعر
و كأنّ هاتفا ما يناديه باسمه من السّماء و يُلحّ عليه في التّوبة و الأوبة إلى التّوّاب الرّحيم. إنّه صوت ضميره الّذي مازال ينبض حياةً يدعوه بإلحاح للاستقامة و نبذ المُوبقات، فينخرط في بكاء مُرّ و نحيب تقشعرّ منه الأبدان، و تسيل دموعه من مقلتيه سيلانا و تنهمر على وجنتيه انهمارا، فتُبلّل لحيته الكثّة لتغسلها من أدران الخطيئة و الانحراف..
هكذا كان وليد يشعر في كلّ جلسة خمرية يقضّيها مع
رفاق المعصية. ويزداد شعوره بالنّدم و الألم عندما يتذكّر أنّه خسر عمله بسبب هذه العادة السّيّئة، و اضطرّ للتّداين و بيع أثاث بيته المتواضع الّذي كان يأويه و أمّه المُسنّة العليلة،حتّى أنّه لم يبق من هذا الأثاث إلّا بعض الحشايا المهترئة
و الأغطية الممزّقة و الأواني القديمة..
في هذا المساء لم يواصل وليد جلسته مع أصدقائه بعد
أن عزف عن شرب الخمر معهم، و عاد إلى المنزل باكرا على غير عادته، عازما على الإقلاع نهائيا عن المفاسد الّتي لم يجنِ منها غير القلق و سوء الحال.. و لمّا وصل وجد أمّه في حالة سيّئة جدّا بعد أن استفحل مرضها و عجزت عن إجراء العملية الضّرورية للشّفاء. كانت تتأوّه و تتألّم و لا من مساعد يلبّي الطّلب، و لا من مغيث يغيثها. فقد كان وليد أعجز من أن يوفّر لها مجرّد الطّعام، فما بالك بالأدوية و تكاليف العملية الجراحية الباهضة، فلولا مساعدة أهل الخير لهما لهلكا من الجوع، فقد أضاع بإدمانه كلّ ما يملك، و أصبح عالة بعد أن كان مُعيلا لأمّه. و كم كان يتألّم لعجزه و قلّة حيلته، فقرّر أن يقوم بمحاولته الأخيرة لجمع تكاليف العملية لعلّه يفلح هاته المرّة، فقصد رفاقه، و قد كان من بينهم بعض الميسورين،
و لكنّ لسوء حظّه لم يستجب لطلبه أحد، بل الأدهى و الأمر انّه وقع لفظه كما تُلفَظ النّواة في الزّبالة، فعاد حزينا يجرّ أذيال الخيبة و المرارة جرّا. و ما كاد يصل إلى بيته حتّى رأى سيّارة فخمة تقف أمام المنزل، و قد ترجّل منها شيخ تبدو عليه علامات الوقار و العفّة و بيده كيس أسود. و ما كاد يخطو بعض الخطوات حتّى اختطف منه أحد الصّعاليك الكيس، و أطلق ساقيه للرّيح. فما كان من وليد إلّا أن لحق به بأقصى ما أوتي من سرعة، و لحُسن حظّه تعثّر الخاطف في صخرة ناتئة، و سقط أرضا، فاستعاد منه وليد الكيس، بينما تحامل الصّعلوك على آلامه و وقف بصعوبة، و لاذ بالفرار..
عاد وليد بالكيس إلى الشّيخ دون أن يحاول اكتشاف ما
يحويه و سلّمه إيّاه، و طلب منه أن يحترس جيّدا من اللّصوص و النّشّالين، فقد ازداد عددهم و تفاقم شرّهم في هذه الأيّام الصّعبة. فشكر له الشّيخ شهامته و مدح رجولته،
و فتح الكيس و أخرج منه بعض الورقات النّقدية و سلّمها له سائلا إيّاه عن منزل شاب فقير يُدعى وليد يسكن مع أمّه المسنّة المريضة. فقد جاء خصّيصا لزيارتها بعد أن علم من بعض أصدقائه بحالتها الصّحّية الحرجة، و حاجتها الأكيدة للمال لإجراء عملية جراحية مستعجلة لإنقاذ حياتها من هلاك مؤكّد. و قد حان وقت دفع زكاة ماله، فقرّر أن يكون المال من نصيبها، فهي أَوْلى من غيرها به. و ما كاد وليد يسمع كلام الشّيخ حتّى انفجر باكيا حامدا ربّه على تفريج همّه و تنفيس كربه، شاكرا الشّيخ على مبادرته الطّيّبة، داعيا له بالصّحّة
و العافية و طول العمر، طالبا له الرّحمة و المغفرة من اللّه عزّ و جلّ بعد أن أعلمه بأنّه هو الشّابّ المقصود..
عاد وليد إلى المنزل مسرعا يكاد يطير فرحا، حاملا
كيس النّقود و الفرج إلى أمّه. إلّا أنّه لم يجدها مستلقية على حاشيتها كعادتها، فتسمّر في مكانه واجما حائرا.. تسارعت دقّات قلبه وجلا، و ارتجفت أوصاله خوفا، فهو يعلم علم اليقين أنّ أمّه عاجزة على الخروج من المنزل بمفردها بسبب ضعفها و عدم قدرتها على السّير إلّا بشقّ الأنفس جرّاء مرضها العضال..
خرج وليد مسرعا و قد تملّكته الهواجس، و تضاعفت
حيرته و سأل جارته سلمى عن أمّه، فأعلمته أنّ أهل الخير من أبناء الحيّ قد توفّقوا في جمع المال اللّازم لإجراء العملية الضّرورية لأمّه. و لمّا رأوا أنّ حالتها حرجة، و لا تحتمل الانتظار مزيدا من الوقت حملوها إلى المصحّة على وجه السّرعة لإجراء العملية بعد أن تعذّر عليهم الاتّصال به. فسجد للّه شاكرا، و رفع كفيه حامدا، و آبَ إلى التّوّاب الرّحيم تائبا..
بقلم الأديب ….كمال العرفاوي في 19 / 03 / 2023
Discussion about this post