بقلم ليلى الدردوري
من كتابي ( كشاف الأسلاف في التاريخ الثقافي العربي )
لا تزال المطولة الشعرية الرائعة العذبة التي مطلعها الغزلي:
يا ليل الصب حتى غده؟
لأبي الحسن الفهري القيرواني الضرير الحصري نسبة إلى صناعة الحصر المتوفى في أواخر القرن الخامس الهجري، تلك التي ألهمت أحمد شوقي غزليته الشهيرة المغناة =
مضناك جفاه مرقــده وبكاه ورحم عـــوده
فترسم خطاها ودار في فلك خيالها الجمالي، وتلك التي حطمت قبلا رقمها القياسي في النظم بالمعارضات تجري إلى اليوم خالدة على الألسنة بمعانيها الحسان، وإيقاعها الرخيم دليلا على صنعة الغزل في شعر الحصري، وهو الشاعر السهل الشعر، السريع النظم، ثم وهو من صاحب البديهة في عماه، فغزرت مادته اللغوية وصح أسلوبه، ولئن عرف أديبا مسترسلا وشاعرا فإن شهرته إنما في شعره، أما شعره فكله قصيد في قصائد ومقطعات، وله تخميس ومعشرات وهي مقاطع تتألف كل واحدة منها في عشرة أبيات، هو مبتكرها وقد إلتزم فيها أن تكون مبادئها كقوافيها كما في قوله:
زخارف دنيانا الأنيقة أصبحت
هشيما كما رث الرداء المطرز
زمان الصبا لله درك، لم تز ل
مواعيد من نهوى لنا فيك تنجز
زعمتم أن الحب فيه تذلـــل،
صدقتم، وفيه للملاح تعــزز
وللحصري مديح للتكسب، فقد اتصل بالمعتمد بن عباد أمير أشبيلية بعد أن إنتقل إلى سبته حيث اشتغل بالتدريس بعد القيروان وحيث لمع نجمه في عالم الشعر، فمدح وتطوف ببلاطات ملوك الطوائف منهم إقبال الدولة العامري، وأمير سرقسطة المقتدر بن هود، والمعتصم بن صماد أمير المرية ، وفي المديح تقع قصيدته المشهورة: ياليل الصب متى غده؟ التي قالها في مدح الأمير عبد الرحمن بن طاهر حاكم مرسية (المتوفى سنة 455 هـ)، وهي دفع لتهمة عن نفسه، أو تبرؤه منها في وشاية من جماعة بالحصري إلى الأمير والقصيدة تسعة وتسعون بيتا منها ثلاثة وعشرون في مطلعها الغزلي منها أرق من خطاب الليل في قوله:
يا ليل الصب متى غــده؟ أقيام الساعة موعـــده ؟
رقد السمار فأرقـــــه
أسف للبين يــــردده
فبكاه النجم ورق لــــه مما يرعاه ويرصـــده
إلى قوله في وصف الطيف المحاط بألغام الحب ومتعة النفس في حضورها الكلي في معبد الحب حيث تمنع الطيف وعزته في الوقوع في طوف المحب:
كلف بغزال ذي هيــــف خوف الواشين يشـــرده
نصبت عيناي له شركـــا
في النوم فعز تصيـــده
إلى غاية أن يستبدل هيبة الطيف بهيبة الحسن المهاب في وصف الجمال المعبود من معاني ينفرد الحصري في صياغتها بحسه الفنان حيث آيات جمال المحبوب إحساس مادي بالجمال يصنع له تمثالا منه تستملي عواطفه، ومن زاده تعزف، وحيث مفهوم الجمال يستمد دلالاته من الميتولوجية الدينية في إبراز جلال المحبوب وتفرده في عين العاشق بروعة قول الحصري:
صنم للفتنة منتصــــب أهــواه ولا أتعبــــده
ينضو من مقلته سيفـــا، وكأن نعاســا يغمـــده
فيريق دم العشـــاق به، والويل لمن يتقلـــــده
كلا، لا ذنب لمن قتلــت عيناه ولم تقتل يـــــده
يا من جحدت عيناه دمـي وعلى خديه تـــــورده
خداك قد اعترفا بدمــي فعلام عيونك تجحـــده؟
وتستوي معاني الغزل بين يديه مسترسلة بارعة إلى أن يخلص إل القول في ممدوحه:
الحب أعف ذويـــه أنا غيري بالباطل يفســده
كالدهر أجل بنيه أبـــو عبد الرحمن محمــده
فاليوم هو الملك الأعلـى مولى من شاء وسيــده
هين لين في عزتــــه، لكن في الحرب تشـداده
وله أيضا شيء من الحكمة والمواعظ والشكوى وهجاء مرلاذع. وآثار الحصري عديدة أهمها (رسائل إخوانية) وخطب فيها تكلف أوجه البلاغة ومجموعات مختلفة من الشعر منها (المعشرات) و( اقتراح القريح وإجتراح الجريح) وهو مجموع الشعر في رثاء ابنه، وفي الديوان قصائد على حروف الهجاء منها تسع وعشرون مقطوعة على نمط المعشرات ولكنه جعل كل مقطوعة منها خمسة عشر بيتا، و(مستحسن الأشعار) وهي قصائد في مدح (المعتمد بن عباد)، ومتفرقات مختلفة منها القصيدة المشهورة:
يا ليل الصب متى غده؟.
Discussion about this post