بقلم … أمل العشماوي
عجزت رضوى عن حساب العمر قبل سنوات طويلة، تقريبا بعدما هاجر أبنها الوحيد لدولة أوربية – طلبا للقمة العيش المريح – وتركها لتأنس بوحدتها فى شقته الصغيرة – شقة الزوجية – ريثما يعود ويجاورها أو تتوافاها المنية، وقد حاولت رضوى طيلة تلك المدة أن تتمسك بأجمل ذكريات طفولتها وشبابها وأن ترددها لنفسها وتتذكرها كل ليلة قبل النوم! خشية من أن يقع عقلها المسن فريسة فى بئر مرض الزهايمر اللعين. ولكنها وبعد رحلة مضنية شاقة مع الزمن خذلتها الذاكرة وبدأت تفقدها رويدا رويدا.. ذكرى واحدة فقط تشبثت بها رضوى وحفظتها عن ظهر قلب حتى بات من الصعب نسيانها.. ذكرى كانت فيها طفلة تلعب مع أقرانها أمام مسكن عم صلاح ” بتاع الحلوى “.
لم يكن عم صلاح بائع حلوى ، وإنما جار ودود، لطيف، طيب االقلب وسهل المعشر.. وقد عرف بهذا الأسم – بتاع الحلوى – بين الأطفال لأنه كان يحتفظ فى بيته بصندوق حلوى فاخر، ولا يترك طفل يطرق بابه إلا ويدعه يأخذ واحدة من هذا الصندوق الشهى، وكثيرا ماأغدق على رضوى ورفيقاتها بالحلوى اللذيذة والكلمة الطيبة وما كان أبدا يتذمر منهم أو يبخل عليهم، فأحبوه جميعا وأحبوا الطرق على بابه لأى سبب كان.
وعليه فى يوم وفاته كان العزاء والحزن يدمى قلب الأطفال قبل الكبار إشتياقا لهذا الرجل النبيل وإشتياقا لأبتسامته وفتح صندوقه اللذيذ، حتى وبعدما مرت السنوات ظل أسم عم صلاح وصندوقه يتردد على الألسنة التى ذاقت منه العجب، فيدعون له جميعا بالرحمة والغفران..
قبل أن تنتقل رضوى للسكنة فى بيت أبنها، قامت بالبحث الطويل حتى وجدت صندوق قديم الطراز يشبه تماما صندوق عم صلاح، ومالبثت أن ملأته بكل مالذ وطاب من أنواع الحلوى رغبة فى أن تقوم بمثل ماقام به عم صلاح، فتصير مثله أسطورة فى قلوب الأطفال.. لكنها لم تدر أن الزمن تغير، وأن الأطفال ماعادوا يلعبون أمام مساكنهم، ولا يطرقون الأبواب، ولا يبتسمون للغريب، فما طرق أحدهم الباب ولا رأت طفلا أو راشدا طوال السنوات الماضية عدا أم خليل التى تقوم برعايتها وخدمتها، حتى تلك لا تطرق الباب أو ترن الجرس وإنما تدخل بالمفتاح وتخرج دونما أزعاج، لكن رضوى لم تيأس وعاشت على أمل أن يأتى هذا اليوم الذى سيطرق بابها طفلا قبل أن تفقد الذكرى الأخيرة.
ذات يوم أستيقظت رضوى على صوت غير معتاد، أستغرق الأمر منها ثوانى قبل أن تدرك أنه جرس الباب الذى تسمعه لأول مرة.. تحاملت على جسدها الضئيل وعلى صحتها الفقيرة وأسرعت لفتح الباب وهى تلهث كمن ركض شوطا، وإذ بها تقف أمام طفلة لا تتعدى العشر سنوات.. طفلة جميلة بملابس صيفية بلون السماء، وشعر مربوط كذيل حصان ولها جسد ممتلئ ووجه ملائكى مدور.. أبتسمت لها رضوى على الفور وأنشرح صدرها وراح قلبها يخفق بجنون.. ومالبثت أن عرفت من الطفلة أن سروالها سقط دون قصد فى البلكونة خاصتها حتى أومأت لها بإبتسامة بلهاء ونظرة مريبة قبل أن تسرع الى الداخل وتختفى خلف الجدران.
غابت رضوى فترة طويلة قبل أن تعد وفى يدها السروال فقط الذى ناولته للطفلة بوجه جاف خالى من التعابير، ومن دون أن تنتظر منها كلمة شكر أغلقت رضوى الباب بعنف وقلة ذوق.. ثم أستدارت وتهاوت على الأرض.. دفنت رأسها بين كفيها ثم أنفجرت فى بكاء حاد، ومرير.
لم تنس رضوى الذكرى التى رددتها يوميا عن عم صلاح وصندوقه، وعن أسطورته الحية، وعن صندوق الحلوى الذى أخفته لسنوات، هى فقط نست أن تذكر نفسها أين أخفت الصندوق؟!.
Discussion about this post