الكينغ يكتب: (بورتريه لأستاذي، عمر الزّيدي):
سنة 1985، شاء القدر أن يكون أستاذي لحصّة اللّغة العربيّة، بمعهد عقبة بالقيروان، هوّ سي عمر الزّيدي Amor Zidi كان أنيقًا ويمشي واثقًا ولا يلتفتُ، ونظراته ثابتة ونافذة، تزيدها إبتسامة شديدة النّبل، جاذبيّة. و حين يُصغي إليك، تشعر بطمأنينة وأمان، حتّى ليعتريك شعور شديد الوطأة، بأنّه يطبطب علي كتفيك، دون أن يحرّك يديه أصلا. فلم يكن في حاجة ليستعين على الإقناع بإقحام يديه، ذلك أنّهُ كان يزن كلامه ولا يلفّه في قراطيس. ولا يعنيه ذلك إطلاقا. وكنّا نسمع عن طريقته المختلفة في شرح الدّرس والتّقاطع المبتكر مع النّصوص وتفكيك بؤر الدّلالات بعمق وألمعيّة، ويا كم فرحنا حين علمنا أخيرًا، بأنّه سيكون أستاذ حصّة العربيّة وهي أهم مادّة في المُقرّر، كوننا شعبة آداب…واقترح علينا منذ اليوم الأوّل أن نكبر فجأة، ونقرأ أدبًا حقيقيّا، يُساعدنا على الإحساس، بأنّنا كبرنا فعلاً، واقترح علينا رواية مجهولة تمامًا بالنّسبة إلينا آنذاك، فيها فقرات فاحشة جدّا، لم نتعوّدها فيما كُنّا نقرأ. وأهداني بعد أسبوع نُسخته، حين لاحظ حماستي وكثرة أسئلتي عنها. وكلّفني أن أقدّمها بعد شهرين. فحفظتها كاملة، عن ظهر قلب، مثل قصيدة مُلهمة. كانت الرّواية بعنوان (موسم الهجرة إلى الشّمال)، لكاتب سوداني يعيش بلندن، إسمه الطّيب صالح. وحين خرجتُ للصّابورة، وقرأت ما كتبت حولها، وأنا أرتعش، من شدّة الرّهبة. نظر صوبي مبتسمًا، وغمرني بابتسامة، هيّ أنبل ابتسامة يُمكن أن ترتسم على وجه كائن بشريّ، وقال لي: – تقديمك لا يقلّ روعة عن الرّواية يا ولدي…وعشقتُ لُغتي بنخوة وصدقٍ منذ تلك اللّحظة…وكبرتُ سنوات وأنا أمرّ بين الطاولات ونظرات زملائي، مزهوّا ومحمُوم المشاعر، في طريقي لمقعدي، هنااااااك، آخر الفصل.
بعد عشر سنوات، سيشاء القدر، أن يتّصل بي مدير مركز العالم الواحد بميونيخ، حيث أعيش، ليعرض عليّ تقديم روائي من السّودان، سيكون ضيفًا على المركز. واسمه (الطيّب صالح). وحين جمعتنا منصّة واحدة، وجاء دوري لتقديم الضّيف، إعترتني رعدة وأوشكتُ على البُكاء. وقلتُ:
– مرحبًا بالكاتب الكبير، المُبدع العربيّ، (الطّيّب صالح). لقد كلّفوني أن أقدّمك، وأهدوني روايتك (موسم الهجرة إلى الشّمال)، منذ شهر لأقرأها قبل كتابة التقديم. ولكنّني لم أفتحها بصراحةٍ. ولستُ في حاجة لقراءتها…. فقد حفظتها والله سنة 1985، وما زلتُ أحفظها عن ظهر قلب، وقد كانت فانوسًا سحريّا، أنار قلبي وروحي في دهاليز غربتي ووحدتي. والفضل في هذا، لأستاذ فاضل جليل، آمن بحقّنا الكامل، ونحنُ شبه أطفال بعد، في التّقاطع مع العلامات الفارقة في مُدوّنة السّرد العربيّ، واقترح علينا منذ الحصّة الأولى عنده، أن نكبر فجأة ونقرأ أدبًا حقيقيّا يُساعدنا على الإحساس بأنّنا كبرنا فعلا. وأنّ هذا الأستاذ، إسمه عمر الزّيدي. فقام الطّيّب صالح، وهو يمسح دمعته، وقال لي: – يسعد قلبك وقلب أستاذك….// إنتهت الحكاية //…. منذ سنة ، فوجئتُ بتعليق من جملين على صورة جماعيّة، كُنت قد نشرتها، هنا بصفحتي، من ذكريات معهد عقبة بالقيروان. وحين قرأت الإسم، إعترتني رعدة، فأرسلتُ له على الخاص، أسأله إن كان هوّ نفسه أستاذنا، لحصّة العربيّة سنة 1985. فردّ بنفس الإبتسامة مرسومة في كلماته:
– هوّ يا كمال…// كان هوّ نفسه فعلا، أستاذي الجليل، عمر الزّيدي، الذي قاد خُطانا لنكبر ونحن نلثغ، وهو الآن، ويا للفخر، صديقي، هنا أيضًا، وأنا عند خوخة الكهولة، وقد اشتعل قلبي شيبا. فشكرًا أستاذي. شكرًا من فضلك…..
(كمال العيادي الكينغ)
من خطوط كتابي الجديد /
خمسون بُورتريه وبُورتريه
Discussion about this post