————————–
الطريق إلى براغ
تورطت وسلكت الطريق الجبلية مغادراً ألمانيا إلى براغ ، وأظن أن اسم الجبال التي صعدناها ( شوفاما) وكان الثلج في ذاك الشتاء القاسي يثير في نفسي ذاك الشعور الذي سماه كولن ويلسون ( الذروة ) في كتابه الشهير ( اللامنتمي ) حين يتحقق الإحساس بالروعة ، وهي شعور يمور ما بين الجميل والجليل ، وقد وددت أن أنزل من السيارة لأتأمل جلال النصاعة وجمال النقاء وهما ينشران في النفس المتعة والصفاء ، فنبهني السائق إلى أن درجة الحرارة خارج السيارة عشرون تحت الصفر ، ومع ذلك غامرت ونزلت و لم أشعر بالبرد الذي توقعته ، فقد كان الهواء ساكناً بلا عواصف تطيح بنا كتلك التي كانت تعصف في أربعينيات الشتوية التي يسميها أهلنا في حلب و إدلب ( المربعينية ) وكان البرد فيها يخترق العظام ، لكنني كنت أضحك من تحول الزفير إلى غمامة صغيرة تكاد تمسك بها وهي تنقل حديثك إلى صاحبك ، وقد وصلنا بعد منتصف الليل إلى براغ ، المدينة التي كنت مفتوناً بجمالها الأخاذ مذ زرتها قبل سنين في مطلع الثمانينيات ، وهي تسمى كما يعرف عشاقها أم المدن أو المدينة الذهبية أو قلب أوربا ، أو مدينة المائة برج لكثرة ما فيها من أبراج كنائس تاريخية ، وعلى ضفاف نهر فولتافا وعلى جسر تشارلز الشهير يتجمع السائحون يتأملون فن العمارة الذي يلخص إبداع أوربا في عصر النهضة ، ولقد نجت براغ من الدمار الذي ابتليت به درسدن أيام الحرب العالمية الثانية ، فبقيت قصورها ومنازلها في البلدة القديمة آيات من فن العمارة الجميل .
***
كنت قد زرت براغ سابقاً ، وكانت معي زوجتي ، ومن طرائف ما أذكر من رحلتي الأولى مطلع الثمانينات أن أحد أصدقائي الذين درسوا فيها رجاني أن أحمل رسالة منه إلى طليقته التشيكية التي استأثرت بابنهما (عمر ) وبقي معها حين حدث الطلاق ، وقد رأيت بريقاً دامعاً في عينيه وهو يقول ، أرجوك أريد منك أن ترى ابني وأن تطمئن عليه . سألته : كم عمر ابنك ؟ قال : أربع سنوات ، ولم أره منذ سنتين ، إنه يشبهني ، وهذا عنوان بيت أهلها ، قلت : ألا يوجد رقم هاتف لها عندك ؟ قال : لقد بدلت المسكن والهاتف ، وقطعت كل ما بيننا من صلة .
أحسست أن مطلب صاحبي سيكون مرهقاً لي لكنه بات أمانة في عنقي ، لقد استثقلت المهمة وبخاصة لأن زوجتي معي ، ولا أريد أن أضيع زيارتنا القصيرة لبراغ في البحث عن طفل بين ملايين الأطفال ، وربما يكون العنوان خارج براغ ، لكنني لن أخذل صاحبي ، ولن أستعجل البحث فور وصولي ، فقد بدأت يومي الأول في براغ بتأمل فن العمران القوطي في ساحة المالاسترانا ، وفي البلدة القديمة ، حيث تجمع الناس في الساحة مع أطفالهم يتقاذفون كرات الثلج الذي يغمر المدينة ، قلت لزوجتي : يجب أن أبدأ البحث عن طليقة صديقي وابنه ، قالت ببرود : أخشى أن نقضي زياراتنا إلى براغ في البحث عن طليقة صديقك ! كنا نجلس في ركن من مقهى في زاوية الساحة وإلى جوارنا حشد من أطفال يلهون على مراجيح ، وقد قطعت حديثي مع زوجتي حين رأيت طفلاً صغيراً يسقط من الأرجوحة على الثلج ، وليس إلى جواره من ينقذه ، فهرعت إليه ، أنهضته وحملته بين يدي وتأملته ، بينما كانت أمه تهرول نحوي ، دهشت وأنا أتأمل الطفل ، ووجدتني أتمتم غير واثق : أنت عمر أليس كذلك ؟ أجابني بالعربية : نعم ؟ وقفت أمه مذهولة ، سألتني بدهشة كيف عرفت اسم ابني ؟ قلت أظن أنني أعرف اسمك أنت أيضاً ، ألست فلانة وكنت زوجة فلان من سورية ؟ قالت مندهشة : بلى، ضحكت وقلت لها إذن خذي هذه رسالة إليك من زوجك السابق .
كنت ما أزال أحمل الطفل ، وزوجتي تقترب مذهولة وهي تراني أقدم الرسالة إلى الصبية التشيكية ، وبادرتها بالقول لقد أدينا الأمانة ،تعالي سلمي على أم عمر التشيكية ، كان الطفل عربي الملامح ، ولم أكن أحتاج إلى براعة في الفراسة لأهتدي إليه ، لكن المصادفة بقيت مدهشة .
***
كان قد حببني إلى براغ حديث الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري عنها ، وقد عاش فيها نحو ثلاثين عاماً ، وكنت قد التقيته منتصف السبعينيات وبدأت معه صلة أعتز بها ، وسمعت منه قصيدته التي عبر فيها عن نشوته بهذه المدينة الجميلة وفيها يقول :
( أعلى الحسن ازدهاء وقعت ؟
أم عليها الحسن زهواً وقعا ؟
وسل الجمال هل في وسعه
فوق ما أبدعه أن يبدعا ؟ ) .
جلست في مقهى سلافيا المطل على نهر الفلتافا حيث كان يجلس الجواهري ، أتأمل العابرين كأني أبحث عن غادة التشيك أو عن بائعة السمك التي ألهمت الجواهري قصيدته الشهيرة ، أو عن مونيكا التي حدثني عنها وأنا أردد في داخلي قصيدته التي كنت أطرب حين ينشدها بلهجته العراقية المحببة :
يا لخديك ناعمين يضجان بالسنا
ولجفنيك ناعسين
مشى فيهما الونى
بأبي أنت
لا أبي لك كفؤ ولا أنا .
Discussion about this post