(المُعْجَم في اللُّغَة والنَّحو والصَّرْف والإعراب والمُصْطَلَحات العلميَّة والفلسفيَّة والقانونيَّة والحديثة)
بقلم: د. إيمان بقاعي
17/12/2022
تتطوّر اللُّغَة وتنمو وتتّسع على مرّ العصور من حيث صَرفها وقواعد نحوها، أو من حيث مفرداتها وتراكيبها وأساليبها تبعًا لتطوّر النَّاطقين بها اجتماعيًّا وفكريًّا وحضاريًّا، ما يعني أن مجموعاتٍ كبيرةً من ألفاظها وصيغها تتغيّر مدلولاتُها ومفاهيمُها مع تغيُّر العوامل والظّروف الطّبيعية والحضارية المختلفة، فتصبح من الضَّخامة والتَّشعُّب بحيث لا يستطيعُ أحد الإحاطة بها مهما بلغ من علمِه بها، حتى من بين أولئك الذين عاشوا في عهد نقاءِ اللُّغَة العَرَبِيَّة وصفائها وفصاحتها وقت نزل القُرآن الكَريم على الأُمة، ما دفع بعلماء اللُّغَة إلى تصنيف كتب غريب القرآن وتفسيرها كما دفعهم إلى تصنيف كتب غريب الحديث النَّبوي الشَّريف.
من هنا، ومن هذه النّقطة بالذَّات، نشأت الحاجة إلى كُتُب تحيط بجانب كبير من مفردات اللُّغَة وتراكيبها وكل ما يتَّصل بهذه المفردات والتَّراكيب من معانٍ ومدلولاتٍ تشرح وتُبَسّط وتزوِّد بمدلولات؛ فكانت المَعاجِم.
ولا يمكن أن نجد ابتكارًا لحماية اللُّغَة العَرَبِيَّة والحفاظ عليها وعلى الهُوِيّةِ الوطنيّةِ والقوميّةِ خيرًا من مُعْجَم يحفظ المفردات ويستبعد دخيلَها مُستبقِيًا أصيلَها، فيكون بمثابة خزانة اللُّغَة التي تُغني حصيلةَ الدَّارس اللّغوية وتنمِّيها وتجعلها مَرِنةً، طيِّعة، مُثرية كلًّا من عمليتي الاستيعاب والتَّعبير من خلال تبنّي الثّقافة اللّغويّة القائمة على التَّحليل والتّركيب للوصول إلى ماهيّة الفكر اللّغويّ العقليّ.
والمُعْجَم (ع ج م): اسْم مَفْعُول مِن أُعْجِمَ؛ تقول: أَعْجَمَ: أَزَالَ إبهامَ الحَرفِ أو الكِتابَة بالنَّقْطِ والشَّكْلِ، وعلى هذا سُمِّيَت حروفُ العَرَبِيّةِ المَنْقُوطَةُ (الحُرُوف المُعْجَمةُ)؛ نحوَ: (ب، ت، ث، إلخ…) وعدَدُها خمسةَ عشرَ حَرفًا، يُقابِلُها الحُرُوف المُهْمَلَةُ؛ نحوَ: (ح، د، س، ص، إلخ…)، ثمَّ أُطلِقَ اصْطِلاحُ (حروفِ المُعْجَم) على كلِّ الحُرُوف العَرَبِيّةِ المَنْقُوطةِ وغير المَنْقُوطَةِ مِن بابِ التَّغليبِ، (و) يُقْصَدُ بالمُعْجَم أيضًا: الكتابُ الّذي يَضُمُّ أَلفاظَ اللُّغَة، ويشرحُ معانيها ودلالاتِها، أو يَضُمُّ مُصْطَلَحَاتِ عِلمٍ مِن العُلومِ أو غير ذلك، وجمعُهُ: مَعاجِمُ ومُعْجَماتٌ، و(مِن الأمورِ): المُبْهَمُ، و(مِن الأقفالِ): المُغْلَقُ، و(بابٌ مُعْجَمٌ): مُقْفَلٌ، و(مُعْجَمُ التَّرَاجِمِ): مُؤَلَّفٌ يَضمُّ تَرْجَماتٍ لحَياةِ المشاهيرِ مُرَتَّبةً تَرتيبًا هجائِيًّا، و(مُعْجَمُ الطِّفْل): هو المُعْجَم الّذي يستخدمه الطِّفْل، وينطوي على جانبين: أولًا: الكَلِمَات الَّتي يعرف معانيها عند الاسْتِمَاع والقِرَاءَة، ثانيًا: الكَلِمَات الَّتي يستخدمها.
وقد تفنّنَ الإنسانُ في تأليف المَعَاجِم وتصنيف مفردات اللُّغَة حتى تعدّدت هذه المَعَاجِم وتشعَّبَت مناهجُها ووظائفُها وأهدافُها؛ فمنها ما اهتمَّ بجمع النَّادِر من الألفاظ، ومنها ما اهتمَّ بالسَّائدِ والنَّادرِ، أو بترجمة اللَّفظ وتعريبِهِ مِن لغة إلى أُخرى، ومنها ما طرَح من الألفاظِ الوحشيَّ الذي لا يُستَعْمَلُ، وأثبتَ المُستَعْمَلَ الذي لا يُخالِفُ القِياس، ومنها ما استساغَ نَحتَ الألفاظ الأجنبيّة على القياس العربي، ومنها ما نادى بوضع ألفاظ عربيّةٍ فصيحة للمُسَمَّيات العلميّةِ الحديثةِ، ومنها ما تضمَّنَ ما شكَّلَ الألفاظَ والكلماتِ في أزمنةِ اللّغُةِ قديمِها ومُحدثِها، أصيلِها ومُستحدَثِها.
ومنها ما اختار مُصْطَلَحات العلم والسِّياسة والطّب والفلسفة والآداب وغيرها من العلوم الشَّهيرة أو غير الشَّهيرة؛ فوُجِدَتْ على أرففِ مكتباتنا العامّة والخاصّة مَعَاجِمُ لم نسمعْ بها من قبلُ، فرضَتْها حضارةُ التّطور حتى بات التَّغاضي عن وجودها غير مقبول في عصر تتسارعُ العلومُ فيه وتتنوّع بحيث لا يمكن اللّحاق بها ما لم يكن هنالك دليل في كل علمٍ يقود الدَّارس والباحث والمبدع في آن- ومنها عِلْم وَضْعِ المَعَاجِم- من حيث (أ) المعنى، (ب) والمضمون، (ت) والمُمات من الألفاظِ، مع الأخذ بعيْنِ الاعْتبار النَّظرة المختلفة- في هذه القضية- بين المعاجِمِ المدرسيّة والمعاجِم ِالكُبرى، (ث) والاشتقاق، (ج) والفصيح والعامّي.
ولعلّ الدّخول إلى عالم المَعَاجِم يحمل من الصُّعوبة والتّشعّب ما يُربِكُ غير المتخصّصين في هذا العِلْم.
ولعلَّه يحمل- في مُعْجَم (المُعْجَم) لـ (غريد الشّيخ محمّد) والصّادر عن (دار النُّخْبة للتأليف والتّرجمة والنشر) في بيروت في الثّامن والعشرين من شهر حزيران 2010 م- نكهة أقلّ ما يُقال عنها إنّها نكهة عِلم اللُّغَة بِنَفَسٍ أُنثويٍّ استطاعَ، خلال عشر سنوات سبقَتْها سنواتُ تحضيرٍ ليست بالقليلَةِ، وسبقتها أُسُسٌ من التَّأليف والشَّرح والانتقاء والتّحليل والمقارنة وصولًا إلى الاستنتاج، بِنَفَسٍ مُدَقِّقٍ، مُرَتِّبٍ، مُمَحِّصٍ، مُشكِّكٍ، مُعيدٍ، حاذفٍ، مُضيفٍ، والأهمّ: مُصمِّم على بلوغ الأفضل.
كذلك فإن الدّخول إلى عالم هذا المُعْجَم- الذي لا يُشبه المَعَاجِم العَرَبِيَّة الأخرى القديمة والحديثة- لا يشبه الدّخول إلى عوالم هذه المَعَاجِم. فمن بوّابةِ العَرَب وتفاصيل اللُّغَة الثَّريَّة التي عشقتها (غريد الشّيخ محمّد) ورصفتها كما يُرصَفُ الماسُ بعنايةٍ فائقةٍ وفنٍّ خرج عن هدوءِ مدلولات اللُّغَة الوظيفيَّة السّاكنة عادة في المَعَاجِم وسكونِها، إلى استعدادٍ مدهشٍ لاستخداماتٍ تُسمَع وتُكتب وتُقرأ مِن قِبَل مَن أُعْطِيَ موهبة تذوُّق اللُّغَة.
من هذه البوّابةِ العَرَبِيَّة دخلتْ مُسَلَّحَةً بإيمانٍ قويٍّ يتمسَّكُ بالعربيّة لغةً ومنهجًا وعمَلًا، عملًا بقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، وقولِه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقولِه: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}، وقولِهِ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وعملًا بقول الرَّسول (صلى الله عليه وسلم): (ما من مُسْلمٍ يَغْرِسُ غرسًا إلا كان ما أُكِلَ مِنهُ له صدقةً، وما سُرقَ له منه صدقةٌ، وما أكل السَّبُعُ منه فهو له صدقةٌ، وما أكلتِ الطَّيرُ فهو له صدقةٌ، ولا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلا كان له صدقةٌ).
كذلك عملًا بدعوته (صلى الله عليه وسلم) إلى الإتقان: (إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ)، فكيفَ عملَتْ (غريد الشّيخ محمّد)، وكيف أتقنَتْ عملَها؟
عن (المُعْجَم):
(أولًا): تكمنُ أهميّةُ (المُعْجَم) لـ (غريد الشَّيخ محمد) في كونه مُرَتَّبًا ترتيبًا هجائيًّا يُذكِّرنا بعليّ بن الحسن الهنائي المشهور بكراع، أو كراع النّمل (ت 310 هـ) الذي فكّر في هذا المنهج الألفبائيّ النّطقي الذي تبنّته مَعَاجِم اللّغات اللَّاتينية، وطبّقه في مُعْجَم له عنوانه (المُنجد في اللُّغَة)، إذ رتَّبَ كلمات جزء كبير منه ترتيبًا هجائيًّا بحسب أوائلها، بِغَضِّ النَّظر عن كونها أصليَّة أو مزيدة.
كذلك يذكّرنا في منهجه بكتاب (الكليّات في المُصْطَلَحات والفروق اللّغوية) لـ (أبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي، ت 816 هـ)، وكتاب (التَّعريفات) لـ (لشَّريف علي بن محمد الجرجاني، ت 816 هـ)، والذي لم يلقَ انتشارًا أو قبولًا بالطّبع من لدن المُعْجَميّين العرب القُدامى لأنه- باعتقادهم- يفصم عُرى المادّة اللَّغوية الواحدة ويفرّق بين مشتقاتها، ولكن هذا المنهج عادَ فتصدَّر مكانةً مهمَّة في صناعة المَعَاجِم العَرَبِيَّة، لكونه يُسَهِّل على مُستخدم المَعَاجِم الوصول إلى الكَلِمة المرادة؛ وهذا ما دفع (غريد الشّيخ محمد) إلى اعتماد هذا المنهج الذي لا يتطلّب في البحث عن الكلمة سوى صحّة نُطقِها أو سلامة كتابتها، متخطّية المناهج الأُخرى المعتمَدة في مجال المَعَاجِم؛ كالمنهج الصَّوتي، ومنهج القافية، والمنهج الهجائي الجذْري.
(ثانيًا): رغم أنّ (المُعْجَم) هو مُعْجَم عصريٌّ جامع لمُصْطَلَحات العلوم الحديثة والقديمة؛ فإنّ (غريد الشّيخ محمد) في مُعْجَمها هذا قد استندت إلى المَعَاجِم العَرَبِيَّة المُهِمَّة والمعروفة؛ فاختارت المعاني البعيدة عن الوُعُورةِ، مع رجوعها إلى (القاموس المحيط)، و(تاج العروس)، و(لسان العرب) في حال اختلفت المَعَاجِم بالنِّسبة إلى جذر الكَلِمَة خاصّة، من دون أن تستبْعِد أيّة كلمةٍ قد تطرأ لباحثٍ أو شارحِ شِعْر أو أدب قديمٍ مليء بألفاظ بحجَّة أنها ماتَتْ أو تَكاد، ففي دفّتي مُعْجَم (غريد الشّيخ محمد) يجب ألَّا يخرج مُفَسِّرٌ أو باحِث عن معنى أو لفظ في أمّهاتِ الكتب خاليَ الوفاض، وإلا ما الفرق بين مُعْجَم ومُعْجَم؟
وهي، بهذا، تطبّق نظريةَ (الشَّيخ عبد الله العَلايِلي) اللُّبنانيّ، المتبَتّل في محراب اللّغة العربيَّة- كما وصفه أستاذُنا (وجيه فانوس) في بحثه المنشور في المركز التّربوي للبحوث والإنماء، بعنوان: (الشَّيخان عاشِقا العربيّةَ المُتَبتّلان في مِحرابها
إبراهيم المُنْذِر وعبد اللهّ العَلايِلي)، وهي نظريّةٌ لا يعترف فيها بمماتٍ؛ “لا سيّمَا وأنّ الإماتة ليست لشيء في ذات الكَلِمَة يخنقها إثر الولادة؛ بل هي- عضويًّا- تخضع لظروف الكائِنِ في ما داخَله منها وخارَجَه؛ فواجب هذه المَعَاِجم ألا تعترف بممات ومُهْمَل ما داما يَمُدَّان بما هو معبّر وبما هو سليم الجَرْس وعَذْب الوَقْع على الأذن”، وأوافقُهما الرأي.
(ثالثًا): ابتعدت (غريد الشّيخ) عن الانتقائيّة السَّائدة في مَعَاجِم اللُّغَة الموجودة بين أيدينا، والتي بفخرٍ يقولُ أصحابُها في مُقَدَّماتهم إنهم اتّبعوا الطَّريقة الانتقائيّة الاسْتِنْسابيّة في اختيار الألفاظِ الواردة، ما يبعث في نفس طلَّابِ معرفةِ اللُّغَةِ شيئًا من شكٍّ لا يلبثُ أن يُبنى عاليًا كلَّما بحث الباحثُ عن كلمة فلم يجدها لسبب مُبَرَّرٍ سلفًا، فيبدو وكأنه عُذْرٌ أقبحُ من ذَنْب هو: الانتقائية!
ومن هنا كان لا بدّ من الخروج عن منهج الجَمْع العشوائيِّ السّائد الّذي يُسيء إلى اللُّغَة والأُمّة معًا، وذلك للعودة إلى النَّهْج الذي يحترم اللُّغَة العَرَبِيَّة من خلال الاسْتِبقاء على ألفاظ اللُّغَة الأُمِّ، حتى تلك التي أكلَ الدَّهْر عليها وشرب؛ فدواوينُ العرب وآدابُهُم وعلومُهم ومقاماتهم وخطبُهم ومعلّقاتُهم ما زالت بين أيدينا، ومازلنا نعود إليها بألفاظِها ومعانيها، فلنتصورْ أن كلَّ المَعَاجِم قد هُذِّبَتْ وشُذِّبَتْ وقُصِّرَتْ وأُخضِعَتْ لإزالاتٍ عشوائيَّة، فأين نجد (سَجَنْجَل) (امرئ القيس) مثلًا؟
(رابِعًا): يتميّز (مُعْجَم غريد الشيخ) بشكله الذي ظهر بمستوًى راقٍ يتماشى تمامًا مع التَّطوّر الحاصل في الطِّباعة والإخراج والتَّصْنيف، بالإضافة إلى استخدام الحَرْفِ الواضح الرَّسم والحَجْم والخَارج ببراعة من منظومة حروف المَعَاجِم الموجودة في الأسْواق، وكذلك إِحْكَام ضبط نُطْقِ الكلمات وإملائها ليتمكَّن مُستخدِم اللُّغَة من التقاطها على صورتِها الصّحيحةِ، ومن ثم استخدامها على وجهِها السّليم.
هذا بالإضافة إلى استخدام الورق السَّميك الصَّقِيل الذي يعطي للكلمَةِ خلفيَّةً ثريَّةً على غير ما تعتمدُه المَعَاجِم الأخرى من ورقٍ رقيقٍ يعجز الباحثُ فيه عن قراءة كلمةٍ، لظهور ما خلفها في الصَّفحة المقابِلة.
(خامِسًا): يتميّز (المُعْجَم) بشواهدِهِ التَّوْضيحيَّة التي اعتمدت (غريد الشّيخ محمد) في كثير منها على آيات من (القُرآن الكَريم)، إلى جانب الشَّواهد اللَّغوية العَرَبِيَّة الأُخرى التي تتّصف بقصرها وفصاحَتِها وسلامة صَوْغِها وسَلاسة معناها؛ فلا تُشَكِّل صعوبة لُغويّة جديدةً تشرح الصَّعبَ بالصَّعب، كما نلحظ في كثير من المَعَاجِم العَرَبِيَّة التي لا تؤدي وظيفتها في الشّرح والتّفسير؛ بل إن الشَّواهد الموجودة في (المُعْجَم) تجمع- إلى الفائدة اللّغويَّة- فائدة ثقافيَّة وحضاريَّة وفكريَّة مدروسة بدقة كي توضح معنى الكلمة أو مدلولها وتبيِّن طريقة استعمالها للباحث، فإذا بالكلمة تنهض من هدوئِها المعتادِ، وتكتسي ثوبًا يدل على حضارتنا اللّغويَّة التي ذكّرتنا (غريد الشّيخ) في (المُعْجَم) بأنها تستحقّ أن نرفلَ بها.
(سادِسًا): يتّسم (المُعْجَم) بِسِمَةٍ موسوعيَّة لها صفة الإحاطة والشّمول؛ فهو قد جُمِعَ بِدِقّة وبمنطق لغويٍّ حضاريٍّ في آن مجالات المعرفة من فُنون وآدابٍ وعلومٍ قديمةٍ وحديثةٍ، إضافةً إلى قواعد العَرَبِيَّة التي لم تترك (غريد الشّيخ محمد) منها شيئًا خارج (المُعْجَم)، فإذا به يصلح- إلى كل ما حوت دفّتاه من علوم- أن يكون مرجعًا كافيًا لِطُلَّاب علوم القواعد المتخصصين منهم وغير المتخصّصين.
(سابعًا): قد يكون من الغريب أن أشير إلى أن (غريد الشّيخ) استطاعت، بدقَّتِها ومعرفِتَها باللُّغَة وتفاصيلِها التي لا يتقنها إلاّ مَن يتنفَّسُها بعشْقٍ، أن تُنقذ (المُعْجَم) من جرائم همزات الوَصْل والقَطْع التي تُعاد طباعة المَعَاجِم العَرَبِيَّة عشرات المرّات وتوزَّع بهمزاتها المُخجِلة تمامًا كما تُوَزَّع كتب اللُّغَة العَرَبِيَّة على أبنائِنا- وخاصّة في الكتب المدرسيّة اللّبنانيّة- منذ نعومة أظفارِهم، مُكَرِّسَة أخطاء فادحة يمكن أن تُودي بالأُمَّة إلى الهاوية إنْ لم يسارعْ الغَيورونَ إلى شنِّ حملةِ مُرَاقبَة مبادئ اللُّغَة وتصحيحها قبل أن يفوتَ الأوانُ.
(ثامنًا): لا ألوم (غريد الشّيخ محمد) في كونها قامَتْ لوحدِها، ومن دون أي دَعْم مُؤَسّساتيٍّ جَماعيٍّ بهذا المشروع الضّخم، ولو كانَ هناك دعم لغويّ مشترك ومادّي، لكانت اختصرت الوقت والجهد وتعب الطِّباعة والتّوزيع، ولكن ألوم مُدَّعِي الاهتمام باللُّغة العربية والحفاظ- من خلالها- على أُسس المجتمع العربي والقوميَّة العربية والانتماء العربي، إذ عليهم- في حال وجود شخصٍ يقوم بما يُفتَرَضُ أن تقوم به مجموعةٌ متآزرة- مدّ يَدِ العَوْن، وهذا لم يحصل، ولا يحصل عادة في بلادنا بكل أسف!
(تاسعًا): كنتُ أودُّ لو أن (غريد الشّيخ محمد) اقتصرَتْ على (مُعْجَم لُغَويٍّ)، بدلَ التّوسّع حتى صار (موسوعة)- والفرق بينهما “فَرْقٌ في المحتوى والمَضْمون، وليس فرقًا في مبدأ الإثبات” كما يقول (الشَّيْخ عبد الله العلايلي) الموسوعيّ، التّنويريّ، الثّوريّ، المؤمن بقيمة العقل؛ لكان أسهل عليها تسويقه، ولَفُزْنا بمجموعةٍ من الكُتُبِ المهمّة العلميَّة، والنّحويَّة، والمُصْطَلَحاتيَّة، مما ضمَّتْهُ دفّتا مُعْجَمها- الموسوعة؛ لكنَّها آثرَت أن تذهب إلى (الموسوعة) توسُّعًا وتوضيحًا ورفعًا لمسؤوليتها المعرفيّة عن كلّ مَن يطالعُ (المُعجَمَ) باحثًا عمّا هو مجهولٌ، مُقْدِمَةً- كما أقدمَ مؤلّفو المعاجمِ العرب القدماء على تسميةِ (موسوعاتِهم) بـ (المَعَاجِم)؛ نحو: (مُعْجَم البُلْدان ومُعْجَم الأدباء لياقوت الحموي)، و(مُعْجَم الشُّعراء للمرزباني)، و(مُعْجَم ما استعجم لأبي عبيد البكري)، و(مُعْجَم الحيوان والمُعْجَم الفلكي للمعلوف).
أخيرًا،
أعرف كلَّ المعرفة أن (المُعْجَم) هو حصيلة عملٍ لم يكلّ ولم يملّ، لم يفترْ رغم مرور السَّنوات، فكان أشبه بِخَلِيَّةِ نَحْلٍ تُديرُها مَلِكَةٌ لا تهدأ، بل كان خليَّةَ النّحل التي أنتجت قُرصَ عَسَلٍ بلون الشّمسِ، نقيًّا، شهيًّا، يسمح لنا أن نغمضَ أعيُنِنا بهدوءٍ، فلسنا خائفين على اللُّغة ما دام لديها حارساتُها وحُرّاسُها.
Discussion about this post