مختارات ..
=-=-=-=-=-=
د.علي أحمد جديد
سيمون بوليفار Simon Bolivar
من الرجال الذين خلّدهم التاريخ ، وتحدّث عن زهدهم بالترف وبالغنى والمناصب التي أتيحت لهم من أجل فكرة عظيمة آمنوا بها وعملوا على تجسيدها وتحقيقها مثل (الحرية) كان مُلهِم أمريكا اللاتينية (سيمون بوليفار) الذي تجرّأ وخاض معركة ضد مجدٍ شخصي مزيَّف لإثنائه عن فكرة تحرير أمريكا اللاتينية ممن أرادوا له اختصار هذا المجد بوسامٍ معدني !!. بينما أراد هو تسخير فكرة (الحرية) ليحصل على شيء لا يصدأ أبداً ، وهو الحبّ النابع من إيمانه العميق بالتحرر .
ويحتل (سيمون بوليفار) اليوم صُروحَ المجد والخلود في كل أمريكا اللاتينية وفي أنحاء عالم الحرية والعدالة ، كما يحتل الصروح الأهمّ في عقول كتّاب ومفكّرين ومؤرّخين يشهد لهم العالم بإبداعهم وبحياديتهم ، لأنهم رأوا فيه مثالاً للبطل الإنساني الذي لا يفنى . وكان أبسط ما قيل عنه، إنّه لم يحرّر دولاً فقط ، بل حرّر العقليات من جحيم خنوعها ومن مستعمريها ومستعبديها .
“يبدو أنّ الشيطان يحاول التحكم في شؤون حياتي”
بهذه الجملة بدأ ساحر أمريكا الجنوبية (غابرييل غارثيا ماركيز) روايته عن (بوليفار) ، وهي جملة استعارها من إحدى رسائل الجنرال (سيمون بوليفار) في أيامه الأخيرة بعدما تخلّى عنه الكثيرون من أصدقائه ، وتضاءل حلمه بتشكيل دولةٍ قوية موحدة وواحدة تجمع كل دول أمريكا اللاتينية . حتى أنه دخل في متاهات الخذلان والإحباط التي جعلته يلقي اللوم على نفسه و يشعر بالذنب لأنّ حلمه لم يتحقق ، مما حدا بالأديب العالمي (غابرييل غارثيا ماركيز) أن يسمي روايته
“الجنرال في متاهته”
ولد (سيمون بوليفار) في أسرةٍ من النبلاء المُترَفين ، وعند اكتمال وعيه بجرائم الاستعمار الجاثم على أرضه تخلّى عن كلّ شيء من أجل تجسيد حلمه بتحرير أرضه وبتوحيد أمريكا اللاتينية كلها ، وكم بدا له محزناً أنْ يشيخ الحلم ، رغم حياته الأبدية في ذاكرة الشرف البشرية التي حصل عليها بعد إنجازاته العظيمة . غير أنّ حلم الوحدة شاخ معه في شيخوخته ، فأصابه المرض والعمى حتى ضلّ طريقه إلى خارج أراضي أمريكا اللاتينية .
قبل ذلك كان (سيمون بوليفار) المولود في كاراكاس بفنزويلا ، عام 1783.م وتلقى تعليماً ممتازاً رغم يتمه لوفاة والديه وهو لم يبلغ العاشرة من عمره ليبقى في رعاية جدّه الذي وظّف له أستاذاً خاصاً (سيمون رودريغيز) يعلّمه القراءة ويزرع في نفسه عشق المطالعة ومحبة الكتب ، فاطلع منذ طفولته على أفكار “جان جاك روسو” و”مونتيسيكيو” ، وقرأ للأديب الفرنسي (فولتير) فتولّد عنده -مبكراً- الحسّ بفكرة “الحرية والثورة”.
كما يقول (خوسيه رودو) ، في كتابه “بوليفار” الصادر عن المركز القومي للترجمة في 2007 .
ورغم الرتبة العسكرية التي نالها (بوليفار) مبكراً من ملك إسبانيا ، وتقليده رتبة (جنرال) ، بدأتْ رحلة الشكّ لديه بحسب “رودو” حين زار المكسيك التي كانت ترزح تحت نير الاحتلال الاسباني . ثم زار البلد التي تحتل أمريكا اللاتينية يومها (إسبانيا) وبعدها زار فرنسا ، وتعرّف إلى (نابليون بونابرت) الذي كان ينال إعجابه الكبير ، لكنه تغيّر رأيه بعد الرحلات والإطلاع في كلّ شيء وآثر أنْ تحكم بلاده وأراضي قارته نفسها بنفسها.
ترك (سيمون بوليفار) حياة الترف والمناصب والنبلاء وتخلّى عن رتبته العسكرية ليخوض فكرة تحقيق الحرية لأنه لم يتأقلم مع بزخ البيئة الأرستقراطية في إسبانيا ، وذلك رغم استقباله في البلاط الملكي الاسباني استقبالاً حافلاً . كمالم يتقبّل الطبيعة الاستعمارية لفرنسا في عهد (نابليون بونابرت) التي لمسها خلال لقائه به ، فبدأت تتوهّج في ذهنه أحلام الحرية وتكبر أكثر فأكثر .
تولّدت بذور الثورة لدى (بوليفار) بعد أن زار المكسيك وهي تحت الاحتلال الاسباني ، ورأى بلاط إسبانيا الأرستقراطي ، وبعد أن عرف ميول (نابليون بونابرت) الاستعمارية أثناء لقائه به ، لتتمكن منه فكرة الحرية ، حتى أن أحلامه كادت أن تثمر حين اشترك (بوليفار) مع القائد الوطني الفنزويلي (دي ميراندا) في ثورةٍ عزلت الحاكم الإسباني لفنزويلا ، وأَعلنت عام 1810، قيام الجمعية الوطنية الاستقلالية في فنزويلا . ولم يمرّ عامان على ذلك الانتصار المتألق حتى ضرب البلادَ زلزالٌ عنيف أسفر عن موت الآلاف من الضحايا ، واستثمرت إسبانيا هذه الفرصة وأعدّت لعملية سحق (الاستقلاليين الثوريين) .
فأطلق (بوليفار) مقولته الشهيرة :
“إذا كانت الطبيعة أيضاً تعترض كفاحنا فإننا سوف نواجهها ونجبرها على الانصياع لنا” .
فلم توافقه الطبيعة على مقولته وفشلت ثورته وتمّ سحقها وقامت إسبانيا بمصادرة جميع أملاك (بوليفار) ولهثت في مطاردته فهرب إلى كولومبيا ، ليعيد فيها ملحمة (هانيبال الفينيقي) هناك وفي كولومبيا بدأ ينثر أحلامه بين الناس فالتفَّ حوله خمسمائة من الرجال فقط يحملون معه حلم تحرير القارة من الاحتلال وتوحيدها .
يتفق المفكر والكاتب الأورغوياني (إدواردو غاليانو) ، والأديب (ماركيز) على أنّ (بوليفار) كان أول موضوع للواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية ، ويصفه (غاليانو) في كتابه “ذاكرة النار” بأنه
“طائرٌ لا يحترق ولا يموت”
بينما يصفه (ماركيز) في كتابه
“مائة عامٍ من العزلة”
“أثار الجنرال بوينديا اثنتين وثلاثين انتفاضة ، خسرها جميعاً ونجا من أربع عشرة محاولة اغتيالٍ وثلاثين كميناً ، كما نجا من أمام كتيبةٍ إعدام كانت توجه بنادقها إلى جسده” .
فكّر (سيمون بوليفار) بتوحيد أمريكا الجنوبية بعد تحريرها لكنّ النزعة الانفصالية لدى دولها المُقَسَّمة حوّلته من بطل للحرية إلى مطارَد !!. ولم تكن شخصية “بوينديا” سوى الصورة الفنية للجنرال (بوليفار) الذي لا تموت روحه لأنّها آمنت بالحرية . وكذلك المؤرخ والكاتب الأمريكي (جون لينش) في كتابه :
“حياة سيمون بوليفار”
كان يرى أنّ الجنرال دخل في مآزق حقيقية كانت تكفي لقتله ، لكنّها لم تكن تكفي لتحقيق حلمه بالحرية ، لأن إسبانيا أشعلت الحرب الأهلية في فنزويلا ، وكان جيش (بوليفار) الصغير والحالم جزءاً من تلك الحرب ، ولم يتوقع الجنرال أنْ تسيل كلّ هذه الدماء من أجل التحرر” ، كمايقول (لينش) .
خسر الجنرال حربه ليهرب ثانية إلى جامايكا ويعكف هناك على دراسة يحلّل فيها وضع أمريكا اللاتينية اقتصادياً وسياسياً وأسباب تراجعها . وأثناء إقامته في جامايكا كتب رسالة يطلب فيها مساعدة بريطانيا ويشرح فيها رؤيته لأمريكا لاتينية موحدة من المكسيك إلى تشيلي .
حيث قال في رسالته :
“إن الصِلات التي كانت تربطنا بإسبانيا قد قُطعت ، ومن يحبّون الحرية سيصبحون في نهاية المطاف أحراراً وما نحن إلا نموذج مصغر للجنس البشري ، نحن عالم منفصل ومحدودٌ بمحيطين إننا صغارٌ في الفنون وفي العلوم ، ولكن عمرنا يناهز عمر المجتمع الإنساني . نحن لسنا هنوداً ولا أوروبيين ، لكننا جزءٌ من كليهما” .
وحين رفض البريطانيون المساعدة التي طلبها لجأ إلى هاييتي التي حصلت على استقلالها من فرنسا في 1804 ، فقدَّم الرئيس الهاييتي (ألكسندر بيتيون) أكواماً من الأسلحة والأموال لمساعدة (بوليفار) مقابل وعدٍ بأن يلغي العبودية في كل مستعمرة إسبانية يحررها .
إن الحروب الأمريكية اللاتينية للاستقلال بدأت مثل الحرب الثورية في أمريكا الشمالية التي قام بها البيض الأثرياء بعد أن سئموا من دفع الضرائب للمستعمر الأجنبي . وفهم (بوليفار) جيداً أن عليه تحرير العبيد وضمِّ كل الأعراق إلى جانبه لأن العدو هو إسبانيا ، وعلى كل رجلٍ من كل لونٍ الاتحاد ضد الاستعمار الإسباني المعادي .
كانت أبرز الانتصارات المذهلة في نضال (سيمون بوليفار) الطويل من أجل استقلال أمريكا اللاتينية في 1819، حين قاد الرجل المعروف (الليبارتادور) فرقةً من العامة اجتاز بها جبال الأنديز التي يستحيل اجتيازها لشن هجومٍ مباغتٍ على القوات الإسبانية التي كانت متفوقة في العتاد .
وقد أبقى (بوليفار) خطته سراً حتى عن أقرب رجاله الذين كانوا يفضّلون الانشقاق عنه بدل عناء السير أميالاً في رحلة التحرير ويقطعون المستنقعات الغارقة ويتسلقون قمماً يصل ارتفاعها إلى 3.9 كيلومتر في شتاء أمريكا الجنوبية .. لكنهم بقوا معه ، وأغراهم دفء وكاريزما شخصية (بوليفار) المهيبة حتى عندما أصيب المئات منهم بالملاريا والحمى الصفراء .
– للبحث بقية –
Discussion about this post