الطريق إلى الله
———-
قراءة نقدية لقصة الصعود للأديب: طارق حنفي
بقلم الناقد: محمد البنا .
———–
الصُّعُود
———–
لا يكاد يُرَى بملابسه البيضاء وسط جبل الثلج – هائل الحجم – الذي يتسلقه.. يجاهِد عجزَه، مُستَنفِدًا إرادته في مقامٍ لا تكفيه الإرادة بل يحتاج القدرة والاستطاعة؛ وإلا صار أسير مقامه دون أمل في اَلِانْعِتَاق، لا يمتلك من الأسباب إلَّا يدَيه التي يستخدمها في التسلُّق، وعندما يصادف واحدة من الفجوات القليلة المتناثرة على المنحدر يخلد إليها؛ يستريح ويلتقط أنفاسه..
لكن، كيف بلغ به الأمرُ حدَّ الأسرِ؟ نَاشَدَ التذكر دون جدوى، بدأ يهمس في حيرة: “ما جدوى امتلاك النيَّة والإرادة لفعل شيء دون امتلاك أدوات النجاح؟! لماذا قد يوضع أي مخلوق في موقف معجز دون امتلاك أسباب تجاوزه؟!”، غير أنه يشعر بوجوب الصعود إلى القمة.
قِلة الحيلة التي تكبِّل يدَيه وقدمَيه بحبلٍ من العجز الذي ينعقد طرفه حول عنقه تلخص حاله، يلتقط أنفاسه في صعوبة، يقاوم غيبوبة تداهم عقله، كما يقاوم شعور اليأس الذي يلتهم إرادته.. جال بخاطره أن يهبط؛ أمال رأسه ببطء وحذر يسترق النظر إلى السفح، لكنه لم يرَ إلا ما يشبه الجدار الرأسي من الثلج لا يستبين بدايته، ودخان يتصاعد بنعومة ويكاد أن يُغْشيه، وعن يمينه ويساره يغطي الثلجُ الأفق..
تطَّلع إلى أعلى، إلى ما يبدو كنورٍ أخضر باهت خلف غشاءٍ
من ضبابٍ أبيض تغوص فيه القمه، حتى ليبدو أن جدار
الثلج هو نفسه جبل من الضباب.
التقى – بعد طول عناء – بفجوة ضيقة فكدَّس جسده داخلها، متكوِّرًا على نفسه كجنين مستكين يأبى الخروج ورؤية العالم.. بعد لحظات، همَّ الغيوم داخل عقله منافسة الضباب في الأعلى قبل أن تخور قواه وتُسلب منه إرادته، أيقن أنها النهاية لا ريب؛ سكَنَتْ مقاومته، أغلق عينيه منتظرًا موته.. فقد منطقه؛ أخذ يهذي بكلمات ظنًّا منه أنه قد لامس الموت بالفعل: “إن الموت ليس بهذا السوء، على الأخص حين يبذل المرء قصارى جَهده، لقد حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أتسلق الجبل وأؤدي مهمتي”، وفي الأخير همدت حركته تمهيدًا إلى أن يتحول جسده إلى قطعة ثلج تضاف إلى الجبل.. شُجَّت رأسه فجأة؛ لقد اقتحمتها إحدى الأفكار عنوة (إن في حالة موته سيغلق بجسده تلك الفجوة التي – ربما – يلجأ إليها أحدهم في محاولة أخرى لإتمام المهمة)، أورثت قلبه غمًّا وحزنا، لم يلبثا أن هُجّرا؛ وشعورٌ بالرأفة والشفقة على من سيسلك الدرب بعده يستوطن مكانهما.
اجتاح صدرَه ما نفخ الروح فيه؛ فأحيا في قلبه همَّته وحسنَ ظنِّه، ذُكِّرَ برسالته، همس في نفسه: “أنا وإن كنت فعلت ما عليّ، إلَّا أنَّني لا بد من أن أُتمَّ الرحلة رحمةً بمن سيأتي بعدي”، فتح عينيه مرة أخرى وغادر جحره، قام من مقامه هذا يَنشُد مقامًا أعلى.
رفع بصره متطلِّعًا إلى الضوء الأخضر خلف الضباب، مبتسمًا له في ثقة، جاءه الضوء من فوره يسعى، التقط جسده وصعد به إلى أعلى حتى وصل به إلى قمة الجبل، وحطَّ به.. ثم بدأ الضوء ينساب بنعومة، وهو يخطو بحذر خلفه متخيرًا مواضِع قدمَيه بعناية؛ كان يطأ بهما مواطئ لم تلامس قدمًا قبلًا.. توقف الضوء وعظم حجمه، وتوقف هو على مسافة منه، وشرَعَ يتمِّم رسالته، أخرج من ملابسه البيضاء بذرة، وغرسها، فما لبثت أن صارت من فورها شجرة مثمرة، ثُمَّ امتد من حولها الشجر والزرع يرسم واحةً خضراء، وصَّل بين آثار أقدامه ليرسم الطريق إلى الواحة، وضع على جانبيه الإرشادات والوصايا لتساعد السائرين فيه على الوصول.. انكبَّ على جذوع الشجر ولحائه يصنع منهما سَلالِم عدة، ألقاها من أعلى الجبل إلى أسفله بعد أن ثبت أطرافها وأحكمها؛ حتى ييسر الصعود على من يأتي خلفه.
جلسَ في جنَّتِه يَتَطَلَّع إلى الأفق، مُتَمَنِّيًا من كل قلبه أن يكون قد أتمَّ رسالته وأن يكون قد أحسن عملا.. انتبه إلى ما يحدث داخل الضوء الأخضر، رنا إليه يترقَّب، والضوء ينشق رويدًا كاشفًًا عن جبلٍ آخر.
طارق حنفي
———–
القراءة النقدية
———–
مع أول جمل المتن لا يخفى على ناقد حصيف أنه أمام نص قوي يقارب الكمال، صاغتها نساج ماهر يتقن حرفته، ويملك أدواتها ونواصي لغة سرده.
استطاع الكاتب بذكاء أن يلزمنا متابعين لتدفق سرديته، متيقظين لخيوط حبكته، فلا هى أتلفت حول أعناقنا، ولا هى تهرأت في أذهاننا، لأنه وببساطة شديدة أحكم شد خيوطها.
نصٌ انماز بلغته الرصينة السليمة بسيطة الكلمات العربية الفصحى دون مغالاة أو تقعر أو استعراض، متماهيا بدرجة ما مع الأسلوب السردي لعميد الأدب العربي الراحل العظيم / طه حسين، وهنا سأتوقف قليلا متأملًا خللًا ما وقع فيه القاص المحترف المبدع، إذ أنني وأنا أقرأ المتن كقارئ عادي وليس كناقد، أحسست بشيءٍ ما أقلقني، فرغم جمال اللغة وبلاغتها ورصانتها أحس بنقص، فعدت إليها كناقدٍ باحث متفحص علّي أضع أصبعي على العلة، ولم ألبث إلا قليلا وإذ بها تطل علي بأعينٍ تقدح وميضا..” ها أنا ذا ..ها أنا ذا ” الرصانة!!.. الإغراق في الرصانة اللغوية لا أراه مناسبًا للحدث المروي، إذ كان المشهد ناصع البياض ( ثلج وضباب) باعثًا على الهدوء والسكينة والأمن والأمان، بينما اللغة رصينة تحمل بين طياتها ما يوحي بلونٍ بني قاتم، زاد من درجة حدته اللونية مأزق البطل ومحاولته التغلب على عجزه ويأسه من بلوغ المشهد، والمشهد ذاته كان استاتيكيا ( ساكنا او قليل الحركة ) محاولة تسلق جبل ( ظاهر النص )، بينما باطنه ( من طلب العلا سهر الليالي)، ( من جد وجد ) ومن بعيد أن لا تكن أنانيًا ( أمانة الرسالة لا أن تبلغها فقط، ولكن أيضا أن تمهد الطريق لمن سيأتي بعدك).
نصٌ كاتبه مبدعٌ محترفٌ، أجاد اختيار العنوان معرفًا ب (ال التعريف) وليس نكرة، فالنكرة صعود اي شيء، والتعريف صعود محدد ألا وهو بلوغ القمة، التي شبهها القاص بالجنة الوارفة، كثواب أقصى لعملٍ صالح، والجبل صعوبة الحياة ومشاكلها ووعورة مسالكها، والجنة هدفه، إذ لم يكن الصعود بمعناه المتعارف عليه، بل كان التغلب على المكاره وتجاوز المعوقات، كالسائر في طريق الله ..يصل ويمهد الطريق لمن يتبعه.
هو نبيّ بصورة من الصور، فما من نبيٍ إلا وعانى مشقة وتكبد أهوال، وقاربه العجز فأمده الله بعونٍ ملائكته، نبيٌ يتحمل الشدائد ليهدي الضالين إلى سبيل الحق.
نصٌ ذو حبكة جيدة ومعالجة ممتازة، وتصوير مشهدي مناسب، وإن لم يكن بنفس مستوى قوة الحبكة والمعالجة، أما عن التقنية السردية فقد جاءت عادية دون تطرف لأعلى أو لأسفل، وهى ما يدعونها بالتسلسل الزمني الطردي، والمشهدية بالبانوراما، إذ تراوحت عين الرائي بين ثلاث زوايا أما لأعلى حيث البقعة الخضراء، وأما لأسفل حيث الثلوج وأما زووم تركزت بؤرته على المتسلق وفجوة تكور جسده فيها.
اما عن الخاتمة فهى قوية في دلالاتها، عادية في تقنيتها إذ أن استخدامها متكرر في الكثير الكثير من القصص والأفلام خاصة أفلام الرعب والخيال.
مرة أخرى أهنئك يا باشمهندس على هكذا نص ممتاز ممتاز ممتاز، وأهلا بك في منتداك.
محمد البنا..القاهرة في ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٢
Discussion about this post