مجموعة واحة القصة القصيرة منال خطاب
قراءة المحامي Mohammad Hasan
قصة قصيرة ﻋﺒﻴﺮ عزاوي
من منظور انساني واجتماعي طل علينا أخى الكريم محمد يوسف حسن ؛ليقدم قراءة واعية وواقعية لنص العائدون للكاتبة عبير عزاوي ؛خالص التحية والتقدير لشخصكم الكريم لروعة الحضور..
القراءة…
قراءة متواضعة للقصة القصير . العائدون . للرائعة عبير عزاوي
من ذهب حتما سوف يعود مهما تباعدت الأيام وشريعة الغاب لابد لها أن تأفل وتعوضنا السنين، لذلك كان العنوان العائدون متناسبا مع فكرة النص ومتماهي كذلك مع سطوره وهو الإجابة نضعها في حضن التساؤل..
الحب لا يتأثر بحرف يهرب سبيا” من أطراف اللسان بل تتداعب حروفه وتتناغى ويخلد ولا يذبل مع قساوة الأيام ويبقى ارث تكتنفه الصدور النقية الطاهرة ..
وبطلة النص ندى ومن اسمها كان لها نصيب حفظت العهد وأخلصت للوعد وارتوت من الود واستبت من حبها العذري وظلت المؤنسة لروح حبيبها . مثعود . تحتوي روحه الهائمة في خيالاتها وتستقي منها كل النبض وتمطرها من نداها لتبقى حائمة في أرجائها فتقتات منها الصبر وتعيش ذكرى أبت أن تنسى ..
نص متميز جدا في الطرح استطاعت الكاتبة الرائعة اقحام المتلقي في معترك تتناقض معه نواميس الحياة بين الحب وبين صناعة هذا الحب فوق الركام فعندما كنا نبتسم لشفافية الحبيبين كنا في نفس الوقت نعتصر البسمة ونكبتها بل نقتلها في المهد مع الطين والاشواك والخيام لنعاود الابتسام من جديد حين تمر كتلة نور الحبيبة من خلال حبيبها ولا تتعثر كما الشعاع لكن تلك البسمة تغتال مرة أخرى حين تكشف الروح الساردة أنها ميته لكنها تأبى الرحيل إلى ملكوتها وتفضل البقاء، تظل وتلهم حبيبة جمعهما حب كان أكبر من الموت ..
قصة العائدون تتميز من بين مئات القصص التي كتبت وهي تجسد الحب في زمن النزوح وفي زمن الحروب وتوثق علاقة الحب العفيف بين ندى ومسعود في المخيمات وربما كانت استمرار لعلاقة الجوار أيام الطفولة قبل النزوح لتتقد ويكتمل فصولها في حياة الخيام، لكنه أغتيل وهو في أوجه على يد أخوة ندى الذي قتلوا مسعود وحطموا قلب أختهم ندى بعدما عرفوا بعلاقتهما، لكن الروح بقيت هائمة حائمة وحاضرة تراقب عن كسب كل حركات ندى وكل سكناتها وترافق الموكب حتى الوصول إلى أرض الوطن الذي صار أطلال أثر بعد عين وطن الركام للأسف ..
تعددت الشخصيات في النص الرئيسية منها ندى وروح مسعود والباقي كلها ثانوية أخت مسعود المكلومة دائما بموت أخيها وكذلك أخت ندى المنغمسة في تصفيد الأغراض والقطة سالي والحمامتين وهم من أثر مسعود وذكرى جميلة منه أما فهد ابن عم ندى فكان مسعود يدافع عنه من اخوة ندى ناجي وأنور ويصد لكماتهما عنه التي غدت قوية بعد معرفتهما بعلاقة الحب بين ندى ومسعود ويكتب له الوظائف التي يعطيها المعلم له إضافة إلى عم ندى الرجل البارز بالمخيم الذي يتمتع ببعض القدرات لحل مشاكل النازحين وكذلك والدة مسعود التي أكلتها الحرب وزوجها أبي مسعود المحافظ على ضفائرها ويعيش على ذكرى الأطلال أما أخت مسعود ليلى التي صورت ببلاغة وهي المهترئة من الداخل والخارج متقصفة الجلد حيث يتهاطل من عضة البرد وشخصية أم ندى الحائرة وآخر شخصية وهو المجرم رامز اخو ندى الذي أزعق بدم بارد روح مسعود البطل وبذلك تتعدد شخصيات النص لتكون وحدة متكاملة تكون الحدث وتنعش السرد .
بينما كان الزمان دقيق جدا وهو تسع سنوات وشهرين وثلاثة أيام وهو تعبير فاضح لمدى المعاناة والعذابات والتراكمات التي عاشها هؤلاء في أجواء طبيعية سيئة عواصف وطين وفيضانات وحر وقر ولا خطر على قلب بشر
بينما المكان كان محصور في المخيم وطريق العودة إلى الوطن الذي مازال ينزف الجروح والتوق لحلم وجود باب بيت مسعود في مكانه ليكون للمفتاح المكنز عوز للعودة ليعانق بابه بعد طول جفاء ويشعر الكل بالأمان والطمأنينة خلف الأبواب الموصدة وليبني الطيرين عشهما وتستمتع القطة بالبقايا ولكن هيهات بعد أن يفنى كل البشر وينكسر الحجر .
نص راق وجدا رغم طوله الملفت فكان سلس ولغته بسيطة مريئة ومشروع رواية ويحمل الكثير من الصور البيانية المبدعة وأغلبها مؤلمة وموجعة حتى الوصول إلى الوطن الوعر مع نهاية كلاسيكية شرحت كل الحدث بينما كانت القفلة والدهشة في متن النص متفردة بروح مسعود التي كانت هادئة منسابة ومتزنة أعبقت كل السرد.
نص في غاية الأهمية يحتاج وقفة ويستحق منا الثناء .
المحامي محمد حسن
النص:
*العائدون
قصة قصيرة ل / عبير عزاوي
” هل كان علينا أن نقطع كل هذا المدى لنعود؟
يا إلٰه السّموات!”
تقول ندى بلثغتها المحبّبة لحرف السّين، أقلّدها فترميني بشرر نظراتها.أضحك، فتهتزّ السّيّارة التي تقلّ أهلي وأهلها، تديم ندى النّظر إليّ؛ أطير محلّقاً من فرط السّعادة.
ندى رفيقة طفولتي
ندى رفيقة طفولتي منذ مجيئنا إلى المخيّم، وهي الآن شريكتي في الأسرار.
كان باب خيمتها مقابلاً لباب خيمتي، اعتادت أن تخرج لتشهد لحظة شروق الشّمس، لا أكاد أسمع جلبتها عندما تخرج ،وتئنّ أصوات الحصى تحت قدميها؛ حتى أخرج كارجاً متعثّراً كل مرّة، ألعن الحصى الذي فرشوا به المساحات الفاصلة بين الخيام لكي يخفّ طين فيضان مياه الأمطار التي تغمر المخيّم كلّ شتاء .
أهبّ من نومي، أقفز قفزتين، فأصير قربها، نركض معاً بسرعةٍ وخفّةٍ ولانتوقّف حتى نصل إلى أعلى التّلّة وراء الخيام، نشبك أيدينا ونقف منتظرين تلك الّلحظة بخشوع من يصلّي.
الشّعاع الذي يبدأ بغمر التّلال البعيدة قبيل إشراقه يتقدّم باتّجاهنا، يصل إلينا رقيقاً، يحملنا على أثيره كعهده منذ سنواتٍ ونحن نكاد نذوب في غمرته النّديّة، أقول لندى:
-إنه يتعثّر بنا.
وبدلاً من أن أبوح لها بالسّرّ أهمس:
– إنه يشبهك!
فتضحك وتقول:
-كيف يشبهني؟!
– مثلك…. يلثغ بحرف السّين.
تعبس وتقول بصوتٍ غاص في حلقها:
-أنا لا ألثغ.ذلك الحرف بغيض.
أخفّف عنها همّها فأقول:
-انظري إلى ذلك الشّعاع هاهو ينساب عند مروره بالسّهل انتظري حتى يقترب، وراقبي ما سأفعل.
ولكي أزيد تشويقها و أستمتع بإبهارها، أقرّب صوتي من أذنها وأهمس:
– حين يمرّ من فوقك، الفظي اسمي.
يرتسم الشعاع كقوس فوقها فتهمس:
– مثعود.
أبوح لها بالسّرّ:
– أعدك أن نعود إلى الوطن وسآخذك إلى بيتي.
تضحك ملء قلبها، وأنا أصير كتلةً من النّور تتقافز حولها
وكعادتها في مثل ذلك الموقف تحاول أن تضربني بأطراف أصابعها المنفرجة قليلاً لكنها تمرّ من خلالي فيمرق من بينها ضوءٌ خجول.
تعود ندى راكضةً إلى المخيّم. أتبعها لكنّها دوماً أسرع مني .
أصطدم بها.واقفةً تنظر بذهولٍ إلى الخيام التي أخذت تتهاوى والناّس يلهثون وهم يطوونها ويجمعون أغراضهم ويحمّلونها فوق عربات الشّحن.
“لقد حان وقت العودة للوطن.” يقول جدّي بصوتٍ مخنوق بالبكاء.
شهقةٌ طويلةٌ تعلق في عيني ندى الواقفة بلا حراكٍ
وأنا أقف قبالتها أرقب مايحدث.أخت ندى تسرع للملمة أغراضها ووضعها في كيسٍ بلاستيكيٍّ من أكياس طحين المعونة الفارغة. أختي تحاول تقليدها لكنها لا تملك الكثير من الأغراض لا ألعاب ولا كتب ولا دمى قماشية؛ تملك فقط دموعها التي لم تتوقّف من بعدي.
قطّتي سالي تحوم بين الأقدام. ثم تقف مقابل ندى تنظر إليّ وفي عينيها فرحٌ غامض، ربما تراني هي أيضاً.
وجدتُ سالي في الشّتاء الماضي، كانت تدور حول بركة الطّين أمام خيمتي، وهي تموء جائعةً ..حملتها ولففتها في كنزتي، أطعمتها حصّتي من طعام الفطور، صارت رفيقتي، ولا أدري حينها كيف خطر لي أن أقطع لها وعداً مثل الوعد الذي قطعته لندى بأنني سأعود بها إلى بيتنا في الوطن .بيتنا الذي أعرفه جيداً رغم أننا خرجنا قبل تسع سنواتٍ و شهرين وثلاثة أيّام.كما تقول رزنامة جدّي وكان عمري حينها يقلّ بشهرٍ واحدٍ عن سبع سنوات.
يكتمل تحميل السّيّارات، تنطلق في رتلٍ طويلٍ سريع . السّيّارة التي تقلّ أهلي وأهل ندى تنوء مثقلةً بحملها، تسترق ندى النّظر إليّ وتبتسم بخفرٍ، وهي تهمس بعبارتها مرّةً أخرى فأسمعها لوحدي:” هل كان علينا أن نقطع كل هذا ..لنعود؟”
ينظرون إليها وهي معلّقة البصر في الهواء هم سّلموا منذ زمنٍ بعيدٍ أنّها فقدت عقلها لكنّهم لايعرفون أنّها كانت تنظر إليّ_ إليّ فقط_ وتبتسم. أتأمّلها وهي مغمورةٌ بشذراتٍ من ضوئي فتبدو مثل سنبلةٍ مشرقة؛ سالي تتكوّم في حضنها، عيناها تبرقان، وإلى جانبها ترقد حمامتان بيضاوان، كنت قد حصلتُ عليهما منذ عامين مكافأةً على حمل أغراض فهد ابن عمّ ندى. وعربون امتنانٍ على ضرب ناجي وأنور أخويّ ندى اللذين يتنمّران عليه دائماً؛ هو لايقوى على الردّ عليهما فأتولّى أنا ذلك. كما أتولّى كتابة وظائفه التي يكلّفها به شخصٌ أحضره والده ليقوم بتعليمه.
والده أي عمّ ندى هو كبير المخيّم. الجميع يعودون إليه في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ وهو المسؤول عن التّواصل مع الجهات الرّاعية. لم أكن أعرف مامعنى هذا. عرفته فيما بعد لكثرة ماسمعته.
كان عليّ أيضاً أن أتلقّى عن فهد الصّفعات والضّرّبات التي يكيلها له أخوا ندى؛ لكنهما عندما عرفا بسرّنا أنا وندى صارت الضّربات أكثر وأقوى؛ وصارا يترصّدانني في كلّ مكان.
لماذا أفكّر بالأمر كثيراً؟! كلّ ما يشغلني الآن هو أن نصل إلى بيتنا، أشعر بموجة حبورٍ لمجرّد تخّيل وصولنا فأهتف بفرح: “سالي ، حمامتيّ ، ندى….يا أغلى ما لديّ… سنعود اليوم إلى بيتنا!”
وصلنا إلى طريق محاذٍ للشّاطئ. كانت مراكب كبيرةٌ تحمل الّلاجئين القادمين عبر البحر، المشهد يبدو مثل كرنفالٍ مبهرٍ زاخرٍ بألوانٍ وأضواءٍ برّاقةٍ تتصاعد في الأفق.
العائدون الذين قدموا عبر البحر لا تبدو وجوههم شاحبةً مثل وجوه أهلنا أنا وندى، ولايلوّث أجسادهم طين المخيّم مثلهم، يبدون هادئين رغم تحفّزهم الذي قد يفوق تحفّزنا جميعاً.
أتشاغل عن الرّحلة بتذكّر شكل بيتنا ربّما كان مدوّراً بحديقةٍ واسعةٍ ستلعب بها سالي أو ربّما فيه شجراتٌ يمكن أن تبني الحمامتان عشّهما فوقها. أتوقّف عن محاولة التّذكّر لأني أتذكّر أيضاً أنّ الحرب أكلت الأشجار والبيوت والقطط والحمامات، كما أكلت أمي .
عند اقترابنا من خطٍّ أحمر ممتدٍّ على جانبي الطّريق حلّقتُ عالياً لكي أرى طرفيه لكنني لم أر سوى أشخاصٍ يتحرّكون بسرعةٍ؛ يصنّفون السّيّارات ويغيّرون وجهة سيرها.
عند آخر الخطّ، توقّف الرّتل و نزل راكبوه ومعهم ندى؛ السّيّارات ستذهب في اتّجاهٍ آخر، و العائدون عليهم أن يدخلوا أرض الوطن راجلين، لذلك سرعان ما اصطفّوا و
أخذوا يمشون في قافلةٍ طويلةٍ جداً يتقدّمهم جدّي، يتبعه والدي وهو يحمل على ظهره كيساً فيه ضفائر أمي، ومفتاح بيتنا ولا أدري كيف قفز أمامي سؤالٌ شقيٌّ:”هل لايزال باب بيتنا موجوداً؟”
أطرد الفكرة الّلئيمة من رأسي وأقول في نفسي جازماً:” موجود …طبعا موجود ..سوف أجعل سالي وندى والحمامات يقفون أمامه، ويدخلون منه إلى البيت حيث تنتظرهم حياتنا السّابقة الهانئة.”
أحاول أن ألتصق بكتف والدي، صار طولي يتجاوزه بكثير.
عندما خرجنا من بيتنا لأوّل مرةٍ كان طولي يصل إلى منتصف فخذه .
أشعر برجفةٍ تسري في كياني أزداد التصاقاً بأبي، أصابعي تحاول أن تتشّبث بقميصه لكنّها لا تفلح. سالي تمشي وهي تتحكّك بساقه وتبادله الرّجفة، كلّ شيءٍ يرتجف.
خلفنا تماماً تمشي أختي ليلى ولحم يديها يتساقط نتفاً نتفاً لقد أصيبت بعضّة البرد في الشّتاء الماضي، وتيبّست أطرافها، وأخذ لحم يديها يهترئ ويسّاقط، لكنه وأمام دهشتنا؛ نما مرة أخرى في الرّبيع. في هذا الشّتاء عاد للتّساقط من جديد.
على الّنباتات الشّوكية التي تسوّر الطّريق تتعلّق أطراف وأشلاء أولئك الذين مّزقتهم مدافع الحرب. كان من بينها قدما رامز الأخ الأكبر لندى وها هو يمشي على عكّازين. أما أمها فكانت تسير وراء الجميع لكي لا يرى أحدٌ دموعها، لكنّ نشيجها ونهج يتواتران مع وقع خطوات تلك القافلة من الحزن البشري التي تسعى لترتمي في حضن الوطن، بينما، مدافع للوطن تشهق قذائفها وتوشك أن تزفرها. ستقتل من هذه المرة؟! لا أعرف ! لكني أتوجّس، رغم أنها لم تكن هي من قتلتني، بل تلك السّكاكين المسنونة في أيدي إخوة ندى .
Discussion about this post