“خنساء في سجن النساء”
رواية للكاتب محمد عز الدين الجميّل
أكثر من خنساء في سجن النساء
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
المعروف أن تَماضر بنت عمرو السلمية الملقبة بالخنساء, هي شاعرةٌ مُخضرمة عَاشت في العصرين الجاهلي والإسلامي. وأكثر ما اشتهرت به هو شعرالرّثاء لأخويها صخر ومعاوية اللذين قضيا في العصر الجاهلي. وقد لُقبّت بالخنساء, نظراً لارتفاع أرنبتي أنفها وقصره, بحيث جاء في كتاب زهر الأدب للحصري بأنها لُقبّت بالخنساء كنايةً عن الظبية التي تتسم بأنها ذات أنف قصير. والخنساء تميّزت شخصيتها بالعديد من الملامح والصفات، ومن أهمها قوة الشخصية المتمثلة في رأيها المتحرّر وحسن منطقها وفصاحة لسانها ومواقفها الشجاعة وإقدامها على التضحية خاصة عندما علمت باستشهاد أبنائها الأربعة في يوم القادسية حين قالت قولتها الشهيرة : (الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم ).
تذكرت هذه المعطيات المهمة في حياة الخنساء وأنا أقرأ الرواية الجديدة للكاتب محمد عزالدين الجميّل (خنساء في سجن النساء) . فماذا عن هذه الرواية ؟ وهل توجد علاقة بين الخنساء العربية والخنساء التونسية في سجن النساء ؟
هي رواية سيرذاتية بامتياز , صدرت في طبعة أنيقة وفي أكثر من 400 صفحة من الحجم المتوسط عن دار يس للنشر سنة 2022 .وقدمها أستاذ الأدب بالجامعة التونسية الدكتور محمد التومي الذي وصفها بالرواية الفضيحة التي كشفت تفاصيل دقيقة عن حكايات وقعت لنساء تونسيات خلف القضبان , وهي حسب تعبيره أيضا رواية سجنية مربكة ومؤلمة .
وفي الحقيقة قبل أن أقتحم أسوار هذه الرواية السجنية لا بد أن أذكر بمقولات يتداولها العامة عن السجون مثل (السجن للرجال ) وكذلك (الحي يعود) وغيرها . وهي مقولات تخص الرجل فقط ,فهل يعني هذا أن المرأة لا تدخل أبدا السجن , والحال أنها تعتبر بيتها هو السجن الحقيقي الذي يليق بها . كما يجب التذكير بأن الخنساء العربية لم تعرف السجن ولا الأسر في حياتها ,عكس الخنساء التونسية التي تعرضت للأسر قهرا وللزج بها في غياهب السجون .
بداية أحداث الرواية إنطلقت يوم الجمعة 7سبتمبر 1990 ,وهو تاريخ اغتيال المناضل الشاب الطيب الخماسي بحي الرمانة بالعاصمة عندما كان يوزع مناشير فيها آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ولعلها إشارة متعمدة للدخول في صلب موضوع الرواية . وهي بداية المواجهة بين السلطة الحاكمة أنذاك والمناضلين في صفوف الإتجاه الإسلامي . والراوية (سلوى البجاوي) وهي واحدة من بين مجموعة من النساء يمكن اعتبارها خنساء سجن النساء .وهي فتاة في سن المراهقة تعيش في قرية سيدي ثابت الفلاحية القريبة من العاصمة ,وكانت قد واكبت انطلاق المواجهات وعاشت لحظات القمع التي تعرضت له عائلتها كبارا وصغارا. ذكورا وإناثا .ومن حينها بدأت معاناتها ,وكانت قصتها الأولى مع البوليس . ولأنها تختلف عن أغلب النساء ,وهي التي نشأت في بيئة محافظة منسجمة تتكامل فيها القيم مع الصلابة والمشاركة في تحمل المسؤولية , أحبت إخوتها ورافقتهم وتعلمت منهم وقلدتهم في كل تصرفاتهم حتى كادت تكون الولد الخامس في عائلتها المتكونة من اربعة أولاد وسبع بنات .وقد قالت في صفحة 35 :
(…أقود الدراجة النارية وأجيد ممارسة رياضة كرة القدم المحسوبة على الذكور في مجتمعنا , كلهم يتربج بي ويناديني “سليم” وهو اسم ولد ,وكلّهم يؤكد ثقته فيّ ويعتمد عليّ في بعض الأدوار والمهمات …).
وكمْ كانت قريبة جدا من أخيه عبد القادر الذي دربها على رياضة التايكوندو, وأعطاها الكثير من العبر والدروس ,وعلمها الشجاعة والجرأة والشهامة والمروءة , ولعل أهم درس بقي راسخا في الذاكرة حين قال لها في صفحة 36 :
(…لا تقبلي النيل من شرفك مهما كانت الظروف والأحوال , حتى لو اضطررت إلى الإنتحار , حتى لو قتلت نفسك…).
وكأنه يعلم بالمستقبل الذي ينتظرفتاة الستة عشر ربيعا , بحيث نلاحظ أنه هيأها لما قد يلحقها من انتهاكات من سلطة يحكمها دكتاتور . و(سلوى البجاوي) التي وثقت في الكاتب محمد عز الدين الجميل ثقتها في اخوتها , وتحدثت أمامه بدون قناع وبكل جرأة , وقصت عليه حكاياتها مع البوليس ومع كبار المسؤولين على السجن وكذلك مع بعض السجينات , ومن خلالها تعرفنا على محرزية بالعابد وهي مناضلة برزت في طفولتها بالجرأة والشجاعة والإنضباط وخطف الإعجاب , ويمكن اعتبارها خنساء أخرى في سجن النساء .وكذلك تعرفنا على (سلوى الأسود) وهي المراة التقية الصوامة المتعبدة والمسؤولة التي حين تخاطب الحاضرات يتغشاهن حنانها وصدقها ودفء حضنها وتغمرهن الالراحة والطمانينة وهي كذلك تعتبر خنساء ثالثة في سجن النساء . وأمينة العميري الطالبة الشابة الملتزمة التي تتقد حيوية ونشاطا , وحبيبة (ب ن ) ونجاة (ت) وأخريات ,وكلهن نساء يمتلكن خصال الخنساء العربية التي كانت ذات أمر بالغ ,وجاذبية طاغية ,فإذا أطلقت الألسن واجهتها بحقيقتها ,وعرفت ما في يدها من سلاح كما عرفت قيمة ذلك السلاح. ومن يجرؤعلى التهجم على الخنساء في تلك الفترة؟وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الرواية جمعت أكثر من خنساء في سجن النساء . وذنبهن الوحيد ايديولوجي بحت.
والمعروف عموما أن الإنسان يعاقب بعقوبة السجن عندما يرتكب جرماً، أي عندما يقوم بسلوكٍ غير مباح مخالف للقوانين والأنظمة في زمنٍ ما وفي مجتمعٍ ما.ولكن هذه المجوعة الكبيرة من النساء ماذا ارتكبن من جرم حتى يدخلن السجن ؟ وهل مجرد الإنتماء لتيار ديني يعتبر مخالفا للقوانين ويزج بأصحابه في السجون وتقيّد حريتهم . وهو مخالف لما تم الاتفاق عليه في المعاهدات والمواثيق الدولية.
والمعروف أيضا أن تونس أمضت على هذه المعاهدات , وأن بعض المسؤولين في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان لهم الحق في زيارة السجون والإطلاع على وضعية السجناء بين الحين والأخر . وفي الرواية تحدثت الراوية عن زيارة الدكتور منصف المرزوقي عندما كان رئيسا للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وخاطبته بجرأة فاجأت الجميع حين قالت في صفحة 105 ردا عن سؤال طرحه أحد المرافقين لرئيس الرابطة :
(… حرري طلبا في العفو من سيادة رئيس الجمهورية وستخرجين فورا .
– أنا لم أخطئ حتى أطلب العفو من أحد .
صدمهم جوابي فصمتوا بعض الوقت قبل أن يهموا بالإنصراف ,فتكلمت :
– هذا فقط ؟ انتهت الزيارة ؟
– لديك ما تضيفين ؟
– نريد متابعة الأخبار ولدينا تلفزة واحدة مفتوحة يوميا على القنوات الإطالية فقط …).
ولعل السجينة سلوى البجاوي تجاوزت في هذا الحوار القصير السقف المسموح به قولا وفعلا , وهو نوع من التمرد الذي يؤكد على أن النار موجودة تحت الرماد وأنّ سجن النساء كما سجن الرجال , فيه قنابل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة .
في الرواية نتعرف على أبرز المشكلات التي تعاني منها السجينات :بحيث نكتشف أن كل الغرف ضيقة ومكتظة يتواجد فيها عدد كبير من السجينات, وأن هذه الغرف تفتقد إلى وسائل التدفئة والتبريد,اضافة إلى نقص في الخدمات الصحية من طبابة وأدوية ونقص في الحاجيات اليومية الضرورية، مثل (مناشر للغسيل- مواد غذائية- حاجيات خاصة بالفتيات/فوط صحية- أدوات التنظيف) وغياب الشروط الصحية الأساسية من تهوئة وأشعة شمس مما يؤدي إلى انتشار الجراثيم والأوبئة.
وغياب كلي لعمليتي التأهيل والإصلاح , والأهم من ذلك هو أن أغلب السجينات يعانين من تدهورٍ في أوضاعهن الصحية والنفسية , والثابت حسب ما صرحت به الراوية ,هو أن معاناة المرأة المعتقلة تبدأ عند وضعها في بداية الاعتقال داخل السيلون ,أي السجن الانفرادي,وهو عبارة عن غرفة ضيقة يفرض على السجينة المعاقبة التجرد من كل ثيابها بدعوى الحيلولة بينها وبين كل ما يمكن أن توظفه أو تستعين به على الإنتحار .وهناك تبقى السجينة تعاني من العزلة والوحدة والتعذيب. وقد تنتهي بعمليات اغتصاب وإذلال متنوعة.مع استخدام ضباط التحقيق والأعوان مختلف الوسائل الدنيئة بحق السجينات .
وفي الرواية نتعرف أيضا على عديد الأعوان والجلادين الذين ساهموا بالقسط الأوفر في تعذيب النساء وقمعهن واغتصابهن والتنكيل بهن أمثال بوكاسا زعيم الجلادين والحاج الزو السكير ويسر وشقيف ودحروج والسلعاق والكاس وغيرهم من الرجال الفاقدين للإنسانية .
والرواية لم تتوقف في نقل التفاصيل والجزئيات عن الوجع والآلام ,وعن حفلات تعذيب السجينات وإهانتهن خلف قضبان السجن فقط ,بل حلقت الراوية بالقارئ بعيدا ونقلت حكايات مثيرة وغريبة تفوق الخيال عن أخواتها الذين عاشوا فترة طويلة يتنقلون من مكان إلى آخر فرارا من أعين البوليس ,وكذلك عن الظروف الصعبة التي عاشها أهل السجينات والرعب الدائم الذي لاحقهم في كل مكان يحلون به .فجاءت حكاياتها شهادات حية توثق ,كما جاء في تقديم الدكتور محمد التومي , تجارب الأفراد الفعلية في ما يتعلق بالقمع المسلط على الإنسان والذي يتجلى في أبشع صوره داخل السجن الذي يصيب المثقف الملتزم خاصة باعتباره الأكثر عرضة لقمع الحاكم المستبد . ولعل أغلب السجينات اللاتي تحدثت عنهن الروائية ,هن مثقفات وملتزمات بالذود عن مبادئهن وأفكارهن وإيمانهن بأن في سبيل الله كل شيء يهون . وقد قالت الراوية سلوى أثناء التحقيق معها في السجن في صفحة 61 :
(… نحاول أن نتكيف مع الظروف . وفي سبيل الله يهون كل شيء …).
وهذا التشبع بالإيمان وبقدرة الله على نصرة عباده الصادقين ,بالإضافة إلى كل الأوصاف التي ذكرتها سابقا عن السجينات في سجن النساء ,هو تقريبا كل ما يجمعهن بالخنساء العربية التي قيل عنها أنها ولدت قبل الإسلام ,وفي عمرالخمسين أعلنت إسلامها وإيمانها, وحضرت حرب القادسية حيث حرّضت أبناءها الأربعة على الجهاد ورافقتهم مع الجيش زمن عمر بن الخطاب, وقد قالت لهم وصيتها المشهورة :
(… يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين, والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد, كما أنكم بنو امرأة واحدة, ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم, ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب غير المؤمنين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية. فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين, فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين, وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقها, فتيمموا وطيسها, وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة…).
ولما بلغ إليها خبراستشهادهم جميعاً, لم تجزع ولم تبك, ولم تحزن, قالت قولتها المشهورة : (…الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم, وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته…).
وقبل أن أختم هذه القراءة الشاملة لهذه الرواية لا بد أن أشير إلى سؤال يحيّرالجميع كما حيرسلوى البجاوي التي ظلت إلى اليوم تتساءل حسب ما جاء في صفحة 78 :
لماذا تستباح بلا إحساس ولا ضمير دماء عائلاتنا وأعراض بناتنا وحرية مواطنينا ؟ ألسنا تونسيين ؟ أبناء وطن واحد وشعب واحد ودين واحد ولغة واحدة وثقافة واحدة ؟ حتى لو كنا غير ذلك , أية أديان وأية قيم , وأية ثقافات محترمة تشرّع لمثل هذه الإنتهاكات ؟
كلمة وجب ذكرها في الختام هي أن الكاتب محمد عز الدين الجميّل كان أمينا في نقل هذه القصص المثيرة والموجعة والمشوقة في آن بحيث أطلق العنان للراوية سلوى حتى تقول كل شيء بكل حرية وكان ينصت إلى كل التفاصيل و يسجل كل الأحداث دون أن يتدخل أو يفرض رأيه .فقط ساهم في ترتيب الأحداث والتوثيق وإخراج هذه الشهادات في شكل روائي باسلوب يشد القارئ حتى النهاية .
Discussion about this post