(كتاب اليوم)
“سلفي…”
لوحات قصصية للكاتبة علياء رحيم .
الوطنية الوقادة لدى سجينات هذا الزمن الذي يتحكّم فيه المدمنون على “سلفي …”
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
بات من الضروري تحيين قواميس اللغة العربية وإضافة ما استحدث من الكلمات التي ظهرت وتظهر مع تقدم التكنولوجيا خاصة وأنها أصبحت شائعة لدى المبدعين والكتاب ,ويستخدمونها في كتاباتهم الجديدة . ولعل كلمة (سلفي) من بين هذه الكلمات الحديثة التي وردت لأول مرة في قاموس أكسفورد , وهو واحد من أهم قواميس اللغة الإنقليزية على مستوى العالم , وفيه تم تعريف هذه الكلمة على أنها : صورة يلتقطها الشخص لنفسه بنفسه,وغالباً ما يستخدم صاحبها هاتفاً ذكيّاً أو كاميرا أجهزة الحاسوب المحمولة, لينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي , أو إرسالها لأصدقائه. والثابت في هذا الخصوص أن معظم الهواتف والأجهزة اللوحية الذكية أصبحت مُزوّدة بكاميرا أمامية تمكن الشخص من تصوير نفسه بنفسه . والكاتبة والشاعرة علياء رحيم اعتمدت هذه الكلمة وجعلتها عنوانا بارزا لكتابها الجديد “سلفي …” . فماذا عن هذا ال(سلفي) ؟ وما علاقته بقصص الكاتبة ؟
لقد صدرهذا الكتاب ضمن سلسلة مسالك “كتابات نسائية” في نسخة جميلة جدا وفي 85 صفحة من الحجم المتوسط عن دار تبرالزمان سنة 2020 . وتضمّن 16 لوحة قصصية متفاوتة الطول وقد بانت مسكونة بالمحبة والشوق والضياع والأمل والألم واليأس وحب الحياة والتوق الى الافضل وإلى كل ما يجعل الانسان انسانا. كما برزت فيها وبصورة استثنائية شخصية المرأة بكل ما تحمله من القلق الوجودي والحيرة اليومية على الأبناء و الوطن في آن .
و(سلفي…) عنوان الكتاب ,هو في الحقيقة عنوان للقصة السادسة التي وردت في صفحة 36. والراوي في هذه اللوحة القصصية يدعى (ناجي ) وما أبعد الحقيقة عن هذا الإسم .هو شاب مهزوم القامة , مبعثر الكيان, يعلق أحزانه على حائط مبكى الفيسبوك , ويجهش بالبكاء كلما يسمع النشيد الوطني .هذا ناجي غير الناجي ,أوصته أمه بأن يحرس ظهر الوطن ,وهي المرأة النبيلة التي حبلت بالوطن وظلت حاملا به طول العمر ,وكم نبهته من آفة التحزب ومساندة السياسيين لأن في نفوسهم شيئا من الخيانة .وقد قالت له في صفحة 42 :
(…تمهل يا ناجي لا تترك أرضك مكشوفة, ولا تحرث الآن في البحر. التلفاز ينقل من زريبة البوز والعالم مشغول بالتقاط سلفي …).
وللإشارة فإن الكاتبة علياء رحيم من البداية بدتْ منحازة للمرأة النبيلة الصادقة والوطنية الملتزمة ومن خلالها تقرّ بأنها تنحاز للوطن ولأوجاعه . وقد كتبت في الإهداء في صفحة 7:
(…إليها سجينة زمن الإفتراس الآدمي …).
وهكذا من البداية وتحديدا في لوحة “لمن تبتسم أيها المعتوه” يحضر حب (الهو)الإفتراضي , وتحضر (سلمى) الإفتراضية أيضا , وهي المزروعة في بقعة ما من هذه الدنيا , ومن خلال رسائلها القصيرة جدا , جعلته يبتسم كالمعتوه , ويصفها حينا بالوردة البرية التي عرشت على جدار قلبه, وحينا بالقرية النائية التي لم تدنسها أقدام المماليك الجبابرة ,ولم يفسد هدوءها ببغوات الشعارات السياسية المهترئة .وكم صار يخافها ,وهي التي تظهر له في وجوه أطفال المدارس , وفي الشجر الواقف عند الرصيف , وأمام عربة بائع الكعك . وكم كان يتشمم عطرها الممزوج برائحة المشمش ويتابع وقع كعبها العالي ,وهو في الواقع يبتسم لإمرأة رسمها فقط في خياله . وهذا تقريبا ما يحدث للعديد من اللاهثين والمدمنين في الفضاء الإفتراضي .وقد يضيع الوطن الكبير في ضياع شبابه الذي أصبح بالكاد يرى غيره ولايرى حتى نفسه .وقد يتحول إلى معتوه لايستمع إلى أحد , بما في ذلك ضميره الذي يسعى إلى إنارة السبيل أمام عينيه .وصوت الكاتبة يسمع من خلال صوت الضمير , فنقرأ في صفحة 19 :
(…أيها المعتوه دعك من الكلام المستهلك ومن حماقة البوح وهي ستفهم . ستعرف أنك كبرت عن حضن أمّك , وأن حكمة الخمسين هيّأتك تماما لطعنة الإقامة وحيدا في هاوية العبث …).
وفي قصة (عصافير الخوف) تصرخ المذيعة عائشة , ومن خلالها الكاتبة والإعلامية علياء رحيم وتحديدا في صفحة 30 :
(…سأظل اصرخ ملء وجعي حتى يسمع الناس استغاثة الوطن في صوتي…).
ولكن هل تكفي صرخة عائشة أمام كرنفال الإنسانية الساقطة حيث يبيع أشباه الرجال قاماتهم وأهلهم مقابل شوارب مزيفة صففت بعناية ليظهروا بها في نشرات الأخبار, وعلى أرصفة الشوارع ,وأمام المكتبات , وعلى خشبة المسرح حيث الحفلات التنكرية التي لا علاقة لها بوشم الجدات أو بباب سويقة, أو بذاكرة التوت المر . وكمْ فاضت روحها بالبكاء بعدما شاهدت نشرة الأخبار .و(خديجة) هذه المرأة التي أضحت وحيدة في بيتها بعدما تركها ولداها وغادرا البلاد للدراسة في فرنسا وقد لا يعودان إلى هذا الوطن الذي فقد كل شبابه المتفوقين .هذه المرأة التي ملت الوحدة , غادرت بيتها لتنقل لنا بكل التفاصيل كل ما يحدث أمام عينيها في رحلة على الحافلة إلى الأحواز عبر شوارع المدينة التي بدأت تغرق في ظلام أول المساء وقد نهلت ما أمكن لها من الدفء اللذيذ الذي غمرها وحررها من سجن وحدتها القاسية .
وفي لوحات الكاتبة علياء رحيم نتعرف على (عائشة) في “عصافير الخوف” وهي إمرأة أحبت بصدق هذا الوطن وكم صدحت بالحقيقة وبكل جرأة وهي تقدم برامجها في الإذاعة فتقول في صفحة 29 :
(… نقف مبعثرين على الأرصفة المزدحمة باتلأقدام المغلولة و الأعناق المرتخية و الوجوه المستعارة نبحث عن ظلنا الضائع منا و نسأل في سرنا : إلى متى سنظل مشدودين إلى شجرة الأسئلة الهرمة ونحلم بعصا الفرح وهي تشق عباب موج حيرتنا المتلاطم …).
ومن يجرأ على مثل هذا الكلام غيرالإعلامية المؤمنة بقدرة الصحافة على التغيير .وهنا يظهر تدخل الكاتبة وهي التي قالت في صفحة 30 :
(… لا أحد يفهم مثلي سر نبراتك الغاضبة على الدوام يا عائشة . لا أحد يشفق عليك أكثر مني وأنا أسمع بكاء روحك وأنت تقدمين برامجك وتحذرين أهلنا من مغبة تدهور الوضع بالبلاد .لا احد يمتلك اسلوبك المتفرد في المقاومة: سنقاوم القبح بالجمال…).
وفي لوحاتها نتعرف على (مريم) المرأة الهادئة المسالمة التي حيرتها أسئلتها العبثية وأرقها كل من ساهم في تدمير حياتها ولم يعتذر لها وأمام كل الخيبات والصدمات لم يبق لها غير الرجوع إلى الله لتسأل بكل حرقة : أين أنت يا الله ؟
وتمر الأعوام ويشتد بها الكبر وهي تنتظر أن تراها عين الله وينتشلها من ليلها الحالك .
وفي لوحة كرنفال نتعرف على (ناصر) وهو رجل ملّ الفضاء الفيسبوكي الملعون بكل مافيه من ضجر و أحقاد دفينة للسياسيين وخيباتهم و فراغهم العاطفي وهو بحاجة إلى أن يصرخ ملئ صوته خلف جدران شقته المعلقة في الطابق الرابع والتي ظلت أضيق من الوجع الذي بداخله . ومن خلاله نتعرف على جارته (زكية ) ومواقفها السياسية وقد قال عنها الراوي في صفحة 65 :
(…هي بائعة مستحضرات التجميل الرخيصة , أصبحت بين عشية وضحاها معارضة شرسة , ولها رأي وباع في كل القضايا الحارقة …).
وما أكثر أمثال زكية في هذا الوطن زمن ما بعد الثورة ؟ وما أكثر هذيانهم المعتاد على مواقع التواصل الإجتماعي وقد سحلتهم اللامبالاة إلى كهوفهم المظلمة .
وفي نفس اللوحة نتعرف على (أماني) وهي حبيبة (ناصر) التي كانت من جملة الخسارات التي عرفها في حياته , ولعل آخر ما قالته له في بهو المطار بعدما قرر الرحيل إلى كندا جاء في صفحة 66 :
( إنها مرحلة العبثية بامتياز …
تبدو سخيفا و أنت تدرب صوتك على صراخ الأنفاق المسدودة , هذه البلاد لن تغادر المتاهة قريبا , وستموت من حزنك عليها …).
والملاحظ أن حضور (الهي) والمرأة بصفة عامة في هذه اللوحات كان ملفتا ,وهذا يؤكد على أن الكاتبة تعمدت هذا الحضور الكبير لتسرب من خلالهن أفكارها ومواقفها ,ولتكشف عبر هذه القصص المختلفة قبح كل الانتهازيين وتعنت السياسيين وانتهاكاتهم للوطن ولأحلامه المسروقة.وهي بذلك تعري الواقع وتكشف زيف الكثيرين من المسؤولين الذين يدعون حبّ البلاد وهم في الحقيقة يشترون مصالحهم الخاصة, ويبيعون الوطن بمن فيه وهم يتلهون خلف (سلفي ).
وخلاصة القول قصص (سلفي…) على حدّ تعبير الناقدة مفيدة خليل في جريدة المغرب بتاريخ 8 فيفري 2021 :
(… فالهِيَ، الأنثى، الكتابة، السعادة، الوطن، المرأة تحضر بكثافة في شخصيات وافكار “سلفي علياء رحيم” تحادثهن وتغوص في قصصهن وتجردهنّ من الخوف والحياء لتظهرن عاريات شفافات كما الحقيقة التي تبحث عنها القاصة الجريئة والمنحازة للأنثى إنسانا ووطنا…).
Discussion about this post