عمرو الزيات يكتب: النعومة والأنوثة في الشعر المعاصر ( 1 )
هاتفنا صديقنا الظريف اﻷديب راوية اﻷدب، ولم نكن نتوقع اتصاله خصوصا بعد جفوة بيننا (كنَّا سببها)؛ فلنا طبع يعرفه المقربون، ونحن – والجمع للتعظيم قطعًا – مسحورون، وكما يقول شيخنا المازني في معرض حديثه عن (شكري) شاعر الديوان اﻷول: ” إن كل أفعاله وأقواله توحي بأنه للجنون ذاهب لا محالة”، ونحسب أنه كان يعنينا بقوله هذا.
كان صوت صديقنا الظريف هادئا جادا حادا على غير عادته: إني قادم إليك، وأغلق الهاتف في وجهنا، أحسسنا كأننا نُساق إلى الموت ونحن ننظر، طافت برأسنا سريعا الفِكَر، وما أدراك ما دوران الأفكار برأس لا شعر به في ليالي الشتاء الباردة؟! هل أتى لينتقم منا لتلك الجفوة؟! اﻷمر جدّ مريب، صديقنا الظريف اﻷديب فاض صبره، وضاق بنا ذرعًا، إنه قادم ليعلمنا اﻷدب في بيتنا، ماذا نفعل الآن؟! يعرفنا الناس في الحيّ بأننا من أصحاب الثقافة والوجاهة والعلم، وربما سبونا غير مرة دون أن نسمع، وقد سخروا منَّا في غير محضرنا مرارا، وتندروا بنا وبمقالتنا التي لا تغني ولا تستحق أن تنفق الجنيهات لشراء الصحف التي تنشر بها في عصر لا يقدر إلا (السُّخافات)، ماذا نفعل إن لقيَنا بلكمةٍ من يمناه قابلتها صفعة من يسراه؟! أين نتوارى إن ضحك منا الدَّهماء العوام، ونحن – هكذا نعتبر أنفسنا – خير من تسعى بهم قدمُ؟!! هاجت تلك الوساوس، وأصبح لها بين ضلوعنا صوت يشبه (كأكأة) الدجاجة فرَّت من ديك الجيران.
كان الليل قد انتصف، كيف علم صديقنا أنّا وحدنا بعد سفر توأمنا لزيارة اﻷهل بمحافظتنا السامقة موطن العظماء (كفر الشيخ)، نعم موطن العظماء أليس منها أمير السرد المجذوب حالب الدهر وغريمه الماكر؟! كيف علم الراوية الظريف؟! ثكلتك أمك يا ابن الزيات! أنسيتَ أنه جنيّ؟!
الساعة تقترب من الواحدة صباحا، انتظرتُ قدري راضيا مرغما، كنت خلف الباب أتسمع صوت الأقدام، إنّها مِشيته تميس أمامه لحية كثيفة، كم تمنيت أن ينبت بعض شعرها في رأسي! من كوة بالباب كنت أرقبه، وقبل أن يطرق الباب فتحناه صائحين: مرحبًا بالحبيب، وأسرعنا نمدُّ يدينا لنعانقه؛ بيد أنّه وكزنا وكاد يقضي علينا.
لم يكن بدٌّ من السكوت وإفساح الطريق له، استوى على الأريكة مكانه المفضل كلما زارنا، نظرنا إليه وكلُّنا آذانٌ مُصغية، قال: يا بن الزيات، لقد ظلمناك واتهمناك بحدة اللغة وقسوتها، لامس ظهرنا المقعد، وأخذنا نفسًا عميقًا؛ وعادت الدماء تجري في عروقنا والشرايين، قلنا له بكل اعتداد وثقة: دوما تتهموننا بتقمص شخصية (المازني)، وأنّا مفتعلو الخلافات وأنتم لنا ظالمون، إننا – علم الله – خير… لم يمهلنا، وانتصبت لحيته وثار حاجباه صائحا: تمهل يا رجلُ، ودعك من عقدك النفسيّة القديمة، جئتُ إليك قاطعا كل هذه المسافة في هذا الوقت لتتلو علي سمعي ظُلامَتَك القديمة المتجددة، وقطع علينا زهونا، ولو أمهلنا لأنبأناه أننا خير من تسعى به قدمُ.
قال: يا مولانا، كنتَ محقًّا في قولك: إن الشعراء المعاصرين قد تخنثوا في شعرهم ولغتهم، قلنا: نعم أيها النقادة الأريب، وما زلنا عند قولنا هذا، ولن نتراجع عنه، وإن كفَّ المجذوب الدكتور سيد شعبان عن ذكر الحواري والجواري والأفاعي والدراويش أهل الله!!!
قال: إنه سخفٌ لا يُسكت عليه، قلنا له: هداكم الله، لماذا الغضب؟! فسكت برهة، كأنه يتذكر أمرًا، تركناه، وذهبنا لنعدَّ له ما يشربه، فليس الوقت وقت طعام ولا مُدَّ فيه خوان، فصاح: قرأت كلاما اليوم لمن يدعونه سيد الشعراء، قلنا: وهل للشعراء سيد؟!! فقال: أيها العلج الأعجمي… قاطعناه قائلين: لا تنس أننا من قلتم عنه منذ قليل: إنكم تظلمونه لمحافظته على العربية.
نحْن… وأحسسنا أن الرجل يهمُّ بإسكاتنا فآثرنا العافية وسكتنا، قال: سمعت كلاما؛ فذكرني بك، وقلتُ في نفسي: إنّ ابن الزيات محقٌ، قلنا متمتمين: تتعلمون منَّا دوما؛ لكنكم لا ترون إلا أنفسكم أيها الدراعيم، وقلّما اعترفتم بفضلنا – نحن العلماء – عليكم، صرخ في وجهي: فيمَ تفكر يا رجل؟! أحدثك، وأنت عني في شغل، قلت: وبعد، فماذا في كتابات بعضهم مما يستحق أن يعد من أجله كاتبا وأديبا إلا إذا كان الأدب كله عبثا في عبث لا طائل تحته؟! لقد سمعنا بعضهم يقول: ” إن في أسلوبه حلاوة” ولو أنه قال: (نعومة) لكان أقرب إلى الصواب، ولو قال: (أنوثة) لأصاب المحز. فلنفسره لفائدة الناشئة إن لم يكن لفائدة ذاك الذي لا نرجو منه إلا شرا:
قالتْ دليلُ الحبِّ أكبرُ
يا حبيبَ العمرِ مِمَّا تَدَّعي
قلتُ: تعالَيْ مَرَّةً
وأنا أموتُ على الورقْ
مُوتي معي
دِينُ المَحبَّةِ لا مُقايضةٌ بهِ
أَوَلم يَئِنْ في دِينِهِ
أن تَخشعي؟
وهو بعد إذا تدبرته لم تشعر أن وراءه شيئا لا من العاطفة، ولا من المعنى، وغاية الأمر أن صاحبه أراد القول في هذا المعنى بغير باعث من النفس فهو عبثٌ محضٌ، ولمّا كان الشاعر قد أعوذته العاطفة هنا ونقصته البواعث؛ فقد لجأ إلى الاحتيال، وحَسِب الإفراط في الرقّة يُكسب الجمالَ ويغني عن الإحساس به، فقلب كل شيء وحمَّل عينيه ما لا تراه، ولا موت هناك ولا قتل ولا قاتل ولا دم، وإنما هو التّطري والرخاوة والميوعة والأنوثة، وبعد، فهو هزرٌ في هزرٍ وجناية في حقّ الأدب لم يجنها إلا زغل الأدباء.
الحوار – يا صديقي – في النص الشعري يكسب النص حيوية لها متعتها لدى المتلقي شريطة أن يكون لهذا الحوار قيمة تُضاف إلى مضمون النصّ وبنيته، فهل وُفق كاتب هذا الكلام (النثريّ) في ذلك؟!
في السطور السابقة صوتان: الأول لمحبوبته التي تتهمه بادّعاء الحبّ، وتلك طبيعة المرأة؛ فهي دوما مطلوبة لا طالبة تريد سماع كلَّ ما يحرك مشاعرها ويزيدها تمسكا بفتاها، وليست محبوبة صاحبنا بدعًا في ذلك، ويقع على عاتق فتاها إقناعها بحبِّه مرضِيًا لها مشعِرا إيَّاها أنه فارسها، الصوت الثاني كان لصاحبنا الذي بدأه بقولٍ موغلٍ في النثريَّة المعيبة:
قلتُ: تعالَيْ مَرَّةً
وأنا أموتُ على الورقْ
مُوتي معي
ولست أدري أيّ جواب هذا؟! وكيف لعاشق تتهمه محبوبته بأنه مدّع أن يقول لها: (موتي معي) وتالله إنها لمحقة (الحقّ كلّه) حين وصفته بادّعاء الحب، ولعلّ صاحبنا أراد الانتقام لرجولته فقال لها: موتي معي، ثم يتحدث عن (دين المحبة) الذي لا يعرفه غيره – دون ادِّعاء – ويسأل تلك المحبوبة التعِسة: أَوَلم يَئِنْ في دِينِهِ أن تَخشعي؟ سلها بالله عليك ثم سلها أيها العاشق الفذّ!!!!
وما علاقة الحبّ بهذا الكلام؟! كيف يجتمع الحديث عن (أسمى عواطف النفس البشرية إحياءً للقلوب وبعثا للآمال) مع حديث الموت والجثث (أكثر المواقف حزنا)؟! على الرغم من أن في الموت راحةً لنا وللقراء من مطالعة هذا (الحمق)، فإن الموت أرحم بنا وبمحبوبته وبه؛ فهو يبيدنا جميعا.
يا صديقي الحبيب الظريف، أهكذا يتحدثون عن الحب؟! ولا يحمدون لنا لغتنا وأنتم معهم، إنّ موقفنا من هؤلاء لن يتغير، هلم لنعدَّ معا طعاما نأكله، ودعك من هذا (التقزُّم).
Discussion about this post