(كتاب اليوم)
“بريق الصمت ”
رواية للكاتبة التونسية منى أحمد البريكي .
خرساء تجعل للصمت بريقا وتؤكد على أنها الأجدروالأقدر في تفاصيل الحب .
بقلم الشاعر عمر دغرير :
يقال أن لغة الصمت هي لغة العظماء ,وهي بالتأكيد أقوى وأبلغ من الكلام حتى أن الكل يصعب عليهم تفسيرها . ويقال أيضا أنها لغة الضعفاء , خاصة الذين يرضخون للواقع ويخافون من الكلام . وعلى هذا الأساس نلاحظ أن لغة الصمت تجمع بين طياتها أضدادا قد يكون قليلها سلبيا وكثيرها إيجابيا وقد يكون العكس صحيحا .والمدونة العربية تحدثت كثيرا عن الصمت وأخرجته في صور وأشكال مختلفة , بحيث جعلت له عيونا ومخالب ,وأخرجت منه ضجيجا وصخبا وصهيلا وكلها جاءت عناوين بارزة لكتب متفاوتة الأهمية ,وملأت الساحة الأدبية في الوطن العرب وخارجه, نذكر منها على سبيل الذكرلا الحصر “باب الصمت” للجاحظ ,و “صخب الصمت ” للكاتبة المصرية رشا عدلي ,و”صهيل الصمت ” للكاتبة التونسية إلهام بوصفارة , وغيرها من العناوين .والملاحظ أن كل هذه العناوين تثبت أن للصمت أصواتا مختلفة وأشياء متنوعة , غير أن الكاتبة والشاعرة منى أحمد البريكي أضافت الجديد لهذا الصمت وجعلت له بريقا قد يكون أقوى من الصوت . فماذا عن “بريق الصمت” ؟ وهل توفقت الكاتبة في تحويل الصوت إلى إشارات بالأيدي وبالعيون وبكل أعضاء الجسم دون كلام ؟
“بريق الصمت” رواية صدرت في أكثر من 200 صفحة من الحجم المتوسط عن دار الإتحاد للنشروالتوزيع سنة 2021 .وقد جاءت في 13 فصلا , بين طويل وقصير . والكاتبة اعتمدت عناوين مختلفة لهذه الفصول , وصدّرت كل فصل بمقولة ,محورها الصمت في حالاته المختلفة والمتنوعة . وكلها مقولات لبعض الأسماء الأدبية العربية والأجنبية . بحيث نقرأ لكتاب عرب , مثل عبد الرحمان منيف , وجبران خليل جبران , وابراهيم نصر الله, وواسيني الأعرج , وفاروق جويدة , وأحلام مستغانمي , والشمس التبريزي , وعزالدين شكري فشير, وبهاء طاهر. كما نقرأ لفيكتور هيقو, وهيلين كلير, وجان جاك روسو , وماكس بيكارد .
أحداث الرواية تدور في أماكن عديدة مثل ليبيا وسوريا وفلسطين وتونس وفرنسا وألمانيا وتركيا, وتؤثثها شخصيات متفاوتتة الأهمية , مثل الراوية الأولى أروى الخرساء , والراوية الثانية حياة المربية والصحفية , ومريم وسارة وآدم وإيلينا وآمنة وسوزان وحيدر وأسماء أخرى . وأروى الخرساء هي في الحقيقة ابنة رجل تونسي كان متحمّسا للقضية الفلسطينية ولإسترجاع الأرض المنهوبة , وهي في نفس الوقت ابنة أم فلسطينية تعرف عليها التونسي في أحد المخيمات . هذا المناضل في غير وطنه اصطحب حبيبته حياة الصحفية إلى أرض الجهاد وفي إحدى العمليات اعتقل من قبل الكيان الصهيوني وتوفي في المعتقل بعد اضراب جوع ,ليترك (حياة ) تواجه مصيرها بمفردها في رحلة مليئة بالمغامرات , خاصة بعد أن عرفت أن حبيبها ترك ابنة في عمرالزهور من امرأة فلسطينية توفيت هي الأخرى في غارة اسرائيلية على المخيم . وهذه الإبنة هي (أروى) الخرساء التي تعرضت لحادث أفقدها النطق والسمع , في هجوم اسرائيلي على الفلسطينيين العزل . وتتكفل (حياة) بتربية (أروى) وتعليمها في مدارس خاصة بالصم والبكم . وتنجح البنت اليتيمة والخرساء في دراستها وتتحصل على شهائد عليا في اختصاصها . وبعد أن توفيت المربية (حياة) تقرر (أروى) مغادرة فرنسا والعودة إلى تونس ,وهي التي تحمل الجنسية الفلسطينية , وتحاول أن تتحصل على هويتها الأصلية من أبيها التونسي , وبعد عناء ومشقة في تقاض دام عدة سنوات تحصلت على الجنسية التونسية ,وعلى إثرها عادت إلى باريس لتتزوج من صديقها الجزائري( آدم) الذي أنجبت منه توأما (حياة وآمنة) ,ومعهما كانت لها مغامرة جديدة في بيت ريفي في جنوب تركيا .
في الرواية تحاول أروى الصماء والبكماء أن تنطق الحروف والكلمات , وأن تجعل الصمت يتحرك ويتكلم ويصرخ ويلمع ويضيء ويحب ويكره ويقول الشعر ويمارس الحب على أحسن مايكون ,وهي التي درست تخصص علوم لغات الصم والبكم في جامعة هامبورغ الألمانية ,وساعدت الصم والبكم على الإندماج في محيطهم الأسري والإجتماعي .وها هي تحلق بين الماضي والحاضر, ومن مكان إلى آخر مستعرضة أدق التفاصيل عن حياتها ومغامراتها وعن مربيتها (حياة) التي أحبتها كما لوكانت ابنتها الحقيقية , وأحسنت تربيتها وتعليمها حتى أنها قالت في صفحة 56 :
(…لم يكن يهمني غير نجاحي في تربيتك , وأن تكوني ذاتا كاملة ومكتفية بنفسها رغم الصمم . سعيت أن تكسبي ثقة بنفسك وتتغلبي على كل الصعوبات …).
(حياة) المربية والصحفية بانت في عواطفها عكس تلميذتها , فهي لا ترغب في المغامرة من جديد , ولا تريد الوصول إلى النهاية, ونفهم ذلك من خلال علاقتها بوالدها الذي عاش وقاتل إلى جانب فصائل عراقية حتى مات هناك, وقد كان يبعث لها برسائل ,ويترجاها أن تكتب له عن حالها وحياتها الجديدة بالعاصمة الفرنسية . غيرأنها وإن تمكنت من كتابة بعض الرسائل , فإنها لم ترسلها إليه بدعوى أنها لا تريد أن يخالطه أمل زائف في رجوعها إليه . وقد قالت في واحدة من الرسائل في صفحة 129 :
(… أنا امرأة جبلت على الخيبات , يطاردها الحزن ويستوطنها الأسى …).
وقالت أيضا في نفس الرسالة :
(… لا عليك مني , أنا امرأة خرقاء , عرجاء الشعور , تخبط أحيانا خبط عشواء , باحثة في كل الوجوه عن تفاصيل نبض تاه منها في مسارب الحياة , وقد كان لها حياة …).
والحال اسمها (حياة) وهذا الإسم المشحون بالمشاعر لا يدل عليها ,وهي القائلة في صفحة 134 :
(…أنا امرأة الخسارات …امرأة الكلمات …سأبقى بانتظار لقاء عند منتصف الحلم وموعد مع الفرح , حين تسألني عنك آهاتي , وأجد دنياي بين يديك …).
و” بريق الصمت” رواية تعددت فيها الأصوات , واختلطت فيها المشاعر حد النقيض , (مريم) صبية أجمل من الجمال ,هيفاء ورشيقة القوام وناعمة كتفاحة ناضجة , وهادئة وخجولة , مأخوذة بسحر (آدم) , وكل مافيه يغتال نبضها ,ويجتاح منابع أنفاسها . لكنه لا يرى فيها غير رفيقة كفاح في طريق تملؤه الأشواك والمطبات , و(آدم) هذا الطالب الجزائري في التاريخ والآداب الإنسانية له وجه نابض بالحياة وعيناه زرقوان ,أحبّ (أروى) الخرساء , ولا يرضى لها بديلا ,وقد قال في صفحة 80 مخاطبا حبيبته :
( …متى ستفهمين أنني حين أنظر في عينيك تندثر كل اللغات , وتتجمد الحروف على شفاه الكلمات , ويتناهى صوتك إلى مسمعي , فتنتابني إيفوريا الأصوات , وأطير مع موسيقى أنفاسك متحديا لامبالاتك بي وكل الإنكسارات …).
وهذا يجعلنا نستشعر بأن العواطف لا لغة لها ,وأنّ الحبّ سدرةُ منتهى يبلغها الصامتون قبل أهل الثرثرة ,أوأولئك الذين يُجيدون فنّ الكلام.ومن قديم الزمان استطاع الحب مخاطبة الأعمى, واستنطاق الأبكم, وإسماع الأصم. ولعل بشار بن برد حين قال بيته الشهير “الأذن تعشق قبل العين أحيانا” لم يكنْ يعلم أنّه يؤسّس لفلسفة جديدة في الحب والغزل, تجعل من حاسة السمع سبيلاً في تطعّم معنى الحب, وبديلا للعين التي أصابها العمى, فماذا إن فقد الإنسان السمع والكلام في ذات الوقت , كما هو الحال عند (أروى). والرواية أثبتت أن الخرساء أحبّت بلغة أخرى. وأنها خلقت بديلا آخر أشدّ وقْعا وأنجع تواصلا. وأثبتت أيضا أن عواطف الخرساء أعطت للصمت بريقا وصنعت حياة خاصة بها مع من يفهمها (آدم) الذي أحبها وعشقها بالإشارة , وفاق حبهما الحب الناطق .وعن هذا الحب ورد في الرواية مشهد حميمي مثير يترجم صدق ومشاعر (أروى) الخرساء و حبيبها (آدم) في صفحة 36 :
(… شربنا القهوة , دخن سيجارته كالمعتاد .ضحكت عيوننا حين تعانقت النظرات .نظرات كلها شغف وشوق .جسدانا مضطربان …أنا أغالب رجفة اعترت جسمي ,وهو يتأمل وجهي بذهول …جذبني إليه .. طوقني بذراعيه .. رسمت بأناملي على ظهره :”أحبّك …اشتقت إليك ” .داعبت أنفاسي رقبته … اشتعلت فيّ رغبة ولهفة لم أقو على كبح جماحها …ارتعش جسدي .. صارت شفتاي أنامل تتهجى عنقه وتفتح أزرار قميصه . ثملت بعطر صدره . أغمضت عينيّ حين لامس أنفه أنفي .. تنفست بريئتيه , وهو يلتهم توت شفتيّ …).
وكما تلاحظون غاب الكلام في حضور الصمت الناطق .هذا الصمت الذي يمارس الحب الناعم حتى لحظات الذروة . وما أروع أن تعيش لذة مغمّسة بآلام تصرخ لها كل خلاياك .هكذا وصفت أروى نهاية هذا اللقاء الحميمي بينها وبين حبيبها وقد قالت في صفحة 37 :
(…على الأريكة كنا شبه عاريين . لم يبق للخجل مكان بيننا .اشتعالنا معا كان أقوى من سنوات الجفاء .. أنا هو, وهو أنا . كل ذرة في جسدينا تدعو الأخرى بشبق جامح .. أنامله كأوتار, وجسدي كمان تتصاعد نغماته تحت وقع لمساته النارية ..وفي قبلاته امتزجت اللذة بالألم …).
وكما أشرنا في البداية أن (أروى) الخرساء مختصة في لغة الإشارات وفي هذا المشهد نلاحظ أنها حولت الإشارات إلى كلمات رسمتها بريشة أصابع المتمكن والعارف . وبانت أناملها تتكلم وتنطق أصواتا وحروفا . وتجلت عيناها مثل ينبوع من المشاعر والأحاسيس المختلفة .أما أنفها فظهر على شكل بهلوان راقص فوق جسد في رحلة تواصل مستمر مع الآخر .
وقبل أن أختم هذه الرحلة بين فصول الرواية المقسمة إلى جزئين . جزء خاص بالراوية (حياة ) الصحفية الناطقة , وجزء يستعرض حكايات الراوية (أروى) الخرساء , لا بد أن أشير إلى أن الحب الحقيقي لدى المبصرين والناطقين أعمى وأصم ,فما بالك به لدى الصم والبكم , وكذلك أشير إلى أن الحب بصمت يدفعنا للحذر من ثرثرة اللّسان الذي يُجيد الكذب في أغلب الأحيان. ويزداد الحذر في هذا العصر الحديث الذي يمارس فيه الإنسان الحبّ في ظلّ عوالم افتراضية بكماء وصماء . بحيث يكفي أن نكتب من وراء شاشة ليقتنع أحدهم بحبنا, وعلى هذا يُضاف إلى الكذب باللّسان كذبٌ بالكتابة في فضاء افتراضي , وفي كلّ الحالات يبقى الناطق هو الخاسر الوحيد أمام سطوة الثرثرة, ويبقى الأصمّ والأبكم هو الأجدر والأقدر على تفاصيل الحبّ. وهذا ما حققته الكاتبة منى أحمد البريكي في روايتها “بريق الصمت ” .
ملاحظة وأنهي : هذه الرواية قدمها الدكتور حمد الحاجي و تعرض لهذا الصمت الناطق حين قال في صفحة 13 :
(…وصفوة القول ,نخلص إلى أن الروائية نجحت في اقتحام الصمت ولغاته المتنوعة والمتعددة , وحرصت على ملامسة المسكوت عنه والإقتراب منه , وهو ما يدلل على وعي الكاتبة به وكيفية توظيفه في روايتها “بريق الصمت” من خلال ارتباطه بشكل وطيد بأروى الشخصية الرئيسية في الرواية , ومن خلال ارتباطه بالذوات الأخرى , وما ينتجه من غياب وثغرات وفجوات ومن مشاعر ومواقف حافلة بالجمال والسؤال …).
Discussion about this post