إصلاح الثقافة وثقافة الاصلاح.
بروفسور محمد عبد العزيز ربيع.
إصلاح الثقافة وثقافة الاصلاح
تشكل الثقافة بما تقوم عليه من قيم وعادات وتقاليد وطرق تفكير وعلاقات اجتماعية، الاطار المجتمعي الذي طوره الإنسان عبر التاريخ لربط أعضاء المجتمع بعضهم ببعض، وتمكينهم من التعامل بكفاءة مع بيئتهم بعناصرها الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجية المختلفة. وفي الواقع، تعتبر الثقافة القناة الوحيدة التي يتعامل العقل من خلالها مع الواقع، والوسيلة التي يستخدمها الواقع لنقل صورة للعقل لما يعيشه من مشاكل وأوهام وطموحات. وهذا يعني أنه ليس بالإمكان معالجة أي قضية من قضايا المجتمع في معزل عن البيئة الثقافية، ودون المرور من خلال قنواتها الرئيسية.
لذلك تعتبر الثقافة أكثر الأدوات أهمية وأولية في علاج العديد من القضايا التي ترتبط بالتنمية الوطنية، وخفض حالات الفقر ومعدلات البطالة، ومحاربة التطرف، وبناء علاقات مع الغير على أسس من الاحترام المتبادل. ومع أن النظريات الثقافية نجحت في تعريف مكونات الثقافة الرئيسية، إلا أنها فشلت في تفسير دور الثقافة في توجيه حركة المجتمع، وتحديد كيفية تطويرها لتقوم بدور أكثر إيجابية في حياة الشعوب.
وفي ضوء انتشار التطرف الديني في الشرق العربي والإسلامي، وشيوع التطرف العنصري في الغرب، خاصة في أمريكا، فإن مواجهة التطرف أصبحت معضلة كونية تحتاج لتعاون دولي. لكن التطرف لا ينمو ولا يتسع نطاقه ويزداد خطره إلا إذا وجد البيئة المناسبة التي تمكنه من النمو وممارسة نشاطاته العدوانية الاجرامية بقدر من الحرية. لهذا قامت أمريكا بطرح فكرة نشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي بوصفها نظاما يتيح المجال للحوار والتفاعل السلمي، لكنها نسيت ما يحدث في عقر دارها من تطرف وقتل جماعي رغم الديمقراطية. أما أوروبا فطرحت فكرة حوار الثقافات كوسيلة لتطوير الثقافات لتصبح أكثر تقبلاً للاخر، وأميل إلى التعايش معه بسلام، والعمل سويا على تحقيق التقدم الاقتصادي والعلمي، والتطور السياسي والاجتماعي. إلا أن الطرح الغربي لكيفية تطوير الثقافات جاء في ظل ظاهرة العولمة التي تعمل، دون تخطيط مسبق، على تفتيت الثقافات الوطنية وطمس معالمها التراثية، وصهرها في بوتقة عالمية تضعف الهويات الوطنية للشعوب المختلفة.
وفي المقابل، جاء الرد العربي والإسلامي على تلك المبادرات ليرفض النقد الأمريكي وليوجه التهم للغرب بمحاولة التشكيك في عقلانية الشعوب العربية وصواب الدعوة الاسلامية، والعمل على طمس الهوية الوطنية لمختلف شعوب العالم الثالث، وتفتيتها. في ضوء ذلك، اتجهت غالبية المثقفين العرب، خاصة التقليديين منهم، إلى المطالبة بحماية الثقافة العربية والإسلامية والدفاع عنها في وجه الحملة الغربية، والدعوة إلى رفض مشاريع الإصلاح الاقتصادية والسياسية التي دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الترويج لها ومحاولة فرضها على العديد من الدول العربية. وعلى الرغم من أن رفض المثقفين العرب محاولات التدخل الغربية وجيه وله عدة مبررات، إلا أن تبني هذا الموقف باسم حماية الدين والدفاع عن التراث يلتقي تماماً مع مواقف نظم الحكم العربية التي تحاول جاهدة الحفاظ على الأمر الواقع، والعمل دون كلل أو ملل على الحيلولة دون حدوث تغيرات سياسية وتطورات ثقافية وفكرية تضعفها، وتعمل بهدوء على تقويض هيمنتها على حياة الناس والمجتمع.
إن التطرف الفكري والأيديولوجي الذي ينتشر في عدة دول عربية اليوم كان نتيجة طبيعية لغياب حركات الإصلاح السياسي والاقتصادي في الماضي، واهمال الثقافة ونظم التعليم طويلا، وتحالف بعض المثقفين مع السلطة ضد الشعوب. وإذا كان الإصلاح مطلوباً في الماضي، وأن غيابه قد تسبب في تشجيع التطرف وتكريس التخلف في بنية الثقافة العربية، فإن الإصلاح يعتبر اليوم أكثر الحاحاً، وذلك بسبب حالة التخبط التي تسود الدول العربية عامة. إذ فيما فشل “الربيع العربي” في تحقيق أي من أهدافه، تم تحويل حوالي ثلث الدول العربية إلى دول فاشلة. وفيما يمضي الزمن بسرعة كبيرة، تتسع الفجوة العلمية والتكنولوحية والاقتصادية التي تفصل العرب عن الغرب يوماً بعد يوم. ولما كانت ثقافة الحكم هي جزء من ثقافة الشعب، وأن الموقف من العمل والإنتاج والبحث العلمي يستمد روحه من نفس الثقافة، فإن إصلاح الثقافة أصبح المدخل الحقيقي لإصلاح أنظمة الحكم وتنمية الاقتصاد ومأسسة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وإجتثاث جذور التطرف من حياة ومؤسسات المجتمع العربي.
كان التحدي الأهم الذي واجه الانسان الأول في حياته هو التعامل مع بيئته الطبيعية ذات المزاج المتقلب والعطاء المحدود. وفي ضوء ضعف الإنسان حينئذ بسبب انعدام معارفه العلمية وبدائية أدواته التكنولوجية، فإنه وجد نفسه مضطرا للتكيف مع أوضاع بيئته من خلال الترحال والتنقل المستمر بحثاً عن ثمار يقطفها وحيوانات يصطادها، والعيش في كهوف هرباً من تقلبات الطقس، والحيوانات المفترسة وغزوات القبائل الضالة. لكن الإنسان هذا، وحال بدء صراعه مع بيئته الطبيعية، اكتشف أنه كان عليه أن يتعامل أيضاً مع غيره من الناس بشكل يقلل مخاطر الاحتكاك بهم ويزيد متعة الانتماء اليهم. وهذا أدى الى ميلاد الثقافات وتبلورها ببطء على شكل عادات وتقاليد وأعراف أسهمت البيئة الطبيعية والجغرافيا وأنماط الإنتاج والتحديات الخارجية في تشكيلها وتحديد هويتها. ومع تأمين الغذاء واستقرار الحياة الاجتماعية في العصر الزراعي، أصبح بإمكان الإنسان توجيه جزء من وقته للتفكير والتأمل في الحياة والكون، ما قاده الى تطوير ديانات مختلفة وتحوليها إلى نظم اجتماعية. ومع ترسخ الفكرة الدينية في النفوس، أصبح بإمكانها تغيير نظم القيم وإعادة تشكيل أهم جوانب حياة الإنسان الزراعي، الأمر الذي جعل الدين يصبح جوهر الثقافة وأساس العلاقات الاجتماعية.
إن ارتباط الثقافة بالدين، وقيام الديانات عامة بدعوة الناس إلى الإيمان بعقائد راسخة لا تتغير، جعل من الصعب تطوير الثقافات الشعبية دون المساس بالدين. الأمر الذي ترتب علية أن أصبح من غير الممكن تطوير الثقافات والعلاقات الاجتماعية دون تطوير الفكر الديني. ولما كانت غالبية المؤمنين تعتقد أن الدعوة لتطوير القيم الثقافية هي دعوة للمساس بمبادئ الدين، فإن جمود الثقافة أصبح أمراً طبيعياً، والتخلف الثقافي والعلمي جزءاً لا يتجزؤ من حياة المجتمعات المتدينة عامة. وفي اعتقادي، لم تّعد الثقافة العربية السائدة اليوم صالحة للتعامل مع حقائق العصر بإيجابية، كما أنه ليس بإمكانها السماح للعقل بالتواصل مع الواقع بحيادية وعلمية، ولا التفاعل مع الغير من الشعوب على أساس تبادل المصالح، والقبول بحق الاختلاف في الرأي والفكر وحرية العبادة.
إن إصلاح الثقافة العربية يتطلب أولاً الاعتراف بأن ثقافتنا بحاجة ماسة لإصلاح ينقلها من حالة الجمود والتطرف الراهنة الى حالة تطور وتحول مستمرة. وهذا يعني أن عملية الإصلاح تبدأ بالاعتراف بالحاجة للإصلاح، والانتقال ثانيا من مستوى الذهن الى مستوى الواقع، ورسم استراتيجية إصلاح تقوم على تحديد الأهداف والوسائل وأدوات العمل، وإقامة المؤسسات المؤهلة لقيادة عملية الإصلاح. فهل باستطاعتنا إصلاح قيمنا الثقافية دون المساس بالمبادئ الدينية؟ بكل تأكيد، لكن علينا أن ندرك أن كل فكر قابل للتقادم، وكل جيل له مطالب وطموحات تختلف عما سبقه من أجيال، وأن لكل تاريخ منطق خاص لا يصلح لغيره، وأن لكل زمن رجال فكر وسياسة وثقافة يختلفون عن غيرهم.
Discussion about this post