نشيد التّجلّي و الذّاكرة …
للطيفة الشابي
يَا وَطَنِي…
لِي فِي جبِينِكَ
سِفْرُ قَدَرٍ
لَا يَقْرَؤُهُ إِلَّا مَنْ عَبَرُوا
مَدَائِنَ الرُّوحِ،
وَتَطَهَّرُوا بِمِلْحِ الحَقَائِقِ،
وَأَكْمَلُوا نُضْجَهُمْ
فَوْقَ جَمْرِ السُّؤَالِ.
هَا أَنَا أَقِفُ
فِي أُفُقٍ
تَتَدَفَّقُ فِيهِ الأَزْمِنَةُ
كَسَيْلٍ يَغْسِلُ خَيْبَاتِ العُمْرِ،
وَأَسْمَعُ صَوْتًا
يُشْبِهُ قِدَمَ الجِرَاحِ،
يَقُولُ:
لَا يَنْجُو أَحَدٌ
مِنَ الحُلْمِ الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ لِوَطَنِهِ.
وُجُودُنَا لَيْسَ صُحُفًا،
لَيْسَ أَخْشَابًا فَوْقَ نَهْرٍ،
لَيْسَ هُوَاءً يَمُرُّ فِي فَمِ النِّسْيَانِ…
وُجُودُنَا
هُوَ قَافِلَةُ نُورٍ
تَحْمِلُ صَرِيخَ أَجْدَادِنَا
كَمَا يَحْمِلُ الصَّدَى
قَوْلَ نَبِيٍّ
عَبَرَ المَسَافَات
لِكَيْ يُعَلِّمَنَا صَمْتَ المَعْنَى.
يَا وَطَنِي…
قَدْ أَسْرَجْتُ لَكَ فِي الدَّاخِلِ
أَلْفَ مِرْآةٍ،
فَمَا عُدْتُ أَعْرِفُ
أَنَا الَّتِي تَنْطِقُ،
أَمْ أَنَّ رُؤْيَاكَ
تَتَسَلَّلُ مِنْ دَمِي
كَمَا تَتَسَلَّلُ البَرَكَةُ
إِلَى مَاءِ الوُضُوءِ.
هَلْ أَنْتَ وَطَنٌ
أَمْ أَنْتَ رُوحٌ
تَلْبَسُ الأَرْضَ
لِتتَجَلَّى
فِي هَيْئَةِ التُّرَابِ؟
هَلْ أَنْتَ تَارِيخٌ
أَمْ أَنْتَ دَرْسٌ طَوِيلٌ
فِي أَخْلَاقِ الفَجيعَةِ؟
كُلَّمَا اقْتَرَبْتُ مِنْ حُدُودِكَ،
شَعَرْتُ أَنَّ الأَرْضَ
لَيْسَتْ أَرْضًا،
بَلْ كَتِفٌ ضَخْمٌ
لِجَدٍّ قَدِيمٍ
يَحْمِلُنِي إِلَى مَا وَرَاءَ العُمْرِ.
وَكُلَّمَا بَعُدْتُ،
فَهِمْتُ أَنَّكَ
لَا تُحِبُّ الغَائِبِينَ،
تُحِبُّ مَنْ يَحْمِلُونَكَ
فِي ذَرَّاتِ أَنْفَاسِهِم،
وَيَمْشُونَ بِكَ
كَأَنَّهُمْ يَمْشُونَ بِوَصِيَّةٍ.
هِيَ البِلَادُ؟
أَمْ سَرِيرُ دَمْعٍ
بَنَاهُ اللهُ لِكَيْ نَرْقُدَ
بَيْنَ نُهُوضَيْن؟
أَمْ هِيَ أُمٌّ
كَبُرَتْ بِآلَامِنَا
وَمَا زَالَتْ تَرْقُبُنَا
كَأَنَّنَا أَطْفَالٌ
ضَيَّعُوا مَفَاتِيحَ البَيْتِ؟
أَيُّهَا الوَطَنُ…
هَلْ سَمِعْتَ أَنَّ الأَشْجَارَ
لَا تَبْكِي؟
لِأَنَّهَا تَعْرِفُ
أَنَّ رُوحَ اللهِ
قَدْ زَرَعَ فِيهَا
سَاقًا يَصْعَدُ لِلْفَوْقِ،
وَجِذْرًا يَنَامُ فِي أَعْمَاقِنَا.
هَكَذَا نَحْنُ…
نَصْعَدُ وَنَغُوصُ فِي آنٍ وَاحِدٍ،
نَسْجُنُ أَهْدَابَنَا فِي السَّمَاءِ،
وَنَحْفُرُ صَلَاتَنَا فِي الطِّينِ.
مَنْ يَسْتَطِيعُ
أَنْ يُفَسِّرَ لِلْأَجْيَالِ
لِمَاذَا نَنْهَارُ أَحْيَانًا
بِقَدْرِ مَا نَتَجَلَّى؟
وَلِمَاذَا تَذُوبُ الرُّوحُ
فِي حُضُورِكَ
حَتَّى تُصْبِحَ
نُقْطَةً طَافِيَةً
فِي نَفَسِ العَاصِفَةِ؟
أَيُّهَا الوَطَنُ…
يَا مَهْبِطَ أَعْذَارِنَا،
وَيَا رَفِيقَ جَلَدِنَا،
أَتَدْرِي مَا الَّذِي يُخِيفُنِي؟
أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ
أَرْوَاحًا مِنْ سَكَنٍ،
أَنْ يَمْشُوا فِي الشَّارِعِ
وَلَا يَتَرُكُوا ظِلًّا،
أَنْ يَتَكَلَّمُوا
وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُمْ
إِلَّا صَفِيرُ الفَرَاغِ.
يَا وَطَنِي…
لَوْ كُنْتَ لِحْنًا،
لَكُنْت أَنْتَ مقَامِي،
وَلَوْ كُنْتَ دَمْعَةً،
لَكُنْتُ أَنَا جُفُونَكَ،
وَلَوْ كُنْتَ صَمْتًا،
لَكُنْتُ أَنَا مَا يَحْدُثُ
بَيْنَ صَمْتَيْنِ.
كَتَبْتُ لَكَ هَذِهِ المَلْحَمَةَ
لِكَيْ أَسْأَلَ:
هَلْ سَيَجِيءُ يَوْمٌ
يَنْطِقُ فِيهِ الحَقُّ
وَيَمُوتُ فِيهِ الرَّمَادُ؟
هَلْ سَيَصْعَدُ الشَّعْبُ
إِلَى مَقَامِهِ،
وَيَقُولُ:
لَا قوّة تفُوقُ حُزْنَنَا،
وَلَا شَمْسَ تُضِيءُ
أَكْثَرَ مِنْ صَدْقِنَا.
وَفِي آخِرِ السِّفْرِ…
أَمُدُّ يَدِي
لِذَلِكَ الغَيْبِ،
وَأَقُولُ:
إِنْ كَانَ هَذَا الوَطَنُ
قَدْ ضَاقَ…
فَارْزُقْهُ مِنْ صَدْرِ السَّمَاءِ
مَسَاحَةَ رَحْمَةٍ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ نَامَ…
فَأَيْقِظْهُ بِنُورٍ
يَرْجِعُ بِهِ
إِلَى نَفْسِهِ.
وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ
قَدْ تَعِبْنَا…
فَاجْعَلْ مِنْ أَلَمِنَا
قُوَّةً
تَفْتَحُ بَابًا لِأَجْيَالٍ
سَتُولَدُ وَهِيَ تُصَلِّي
فِي سَاحَاتِ النُّورِ.






































