الموسيقى…
الموسيقى ليست فنّاً يُدرَّس بل مكيدة كونيّة أُعدّت لنا منذ اللّحظة الّتي خُلق فيها الصّدى قبل أن يولد الصّوت.
نحن نظنّ أنّنا نصنع اللّحن حين نضع نوتة فوق أخرى، بينما الحقيقة أنّ
الموسيقى هي من تضعنا فوق خطوطها، وترسمنا كعلامات عابرة على مدرج أبيض لا ينتهي. ما يبدو لنا «عبثاً» ليس سوى الطّريقة الوحيدة الّتي يمتلكها الكون ليعيد ترتيب نفسه كلّما اختلّ ميزانه. فاللّحن، بأيّ صيغة جاء، هو محاولة من الفوضى كي تتجمّل، ومن الزّمن كي يتذكّر أنّه قابل للعذوبة.
عندما يكتب أحدهم عن الموسيقى ، فهو في الحقيقة يكتب عن الجرح الّذي يرفض أن يلتئم خشية أن يفقد موسيقاه. لعلّ أبسط نغمة تُعزَف على قصبة مهملة تستطيع أن تهزم صمت ألف مدينة، لأنّ الصّوت الّذي يأتي من هشاشة الأشياء يحمل صدقاً يفوق كلّ ما يُصنع بإتقان. النّاي الّذي ثقبته الرّيح يفهم الحياة أكثر من الموسيقي الّذي درسها سنين طويلة؛ فالرّيح لا تتعلّم… بل تكشف.
من ينجذب للموسيقى لا يبحث عن السّعادة، بل يهرب من الزّمن المُحكَم الّذي يصادر حريّتنا. الموسيقى هي الكسر الوحيد المسموح في هندسة الوقت. حين نستمع إليها، نخرج من هندسة السّاعات، ونعود إلى شكلنا الأوّل: كائنات تنتمي للصّدى أكثر مما تنتمي للجسد، وتؤمن بأنّ الإنسان لا يُقاس بما عاش، بل بما اهتزّ في داخله لحظة سمع شيئاً يشبهه.
الموسيقى ليست فنّاً، بل جهاز تنفّسٍ روحي يمنع أرواحنا من أن تُصاب بالاختناق. لولاها لكان القلب حجراً محبوساً داخل صدرٍ منسَّق جيّداً وفق قوانين الحياة العمليّة. لكن الموسيقى تربك هذا النّظام: تجعل القلب يتذكّر أنّه ليس في القلب، وأن مكانه الحقيقي على حافّة الوقت حيث تنبت المعاني، وتتمزّق اليقينات، ويصبح الجمال احتمالاً لا يمكن السّيطرة عليه.
وكلّما حاول الإنسان كتابة موسيقاه، اشتبه عليه الأمر:
هل يكتب اللّحن، أم يكتب الظّلّ الّذي تركه اللّحن داخله؟
هل هو يدوّن صوتاً، أم يدوّن ارتجافاته؟
السّاعي لكتابة موسيقى تشبه حلمه يعرف أنّه أمام مهمّة مستحيلة؛ فالموسيقى الّتي نحلم بها لا يمكن الإمساك بها، لأنّها مصنوعة من مادّة لا يقبض عليها الحبر ولا يعترف بها الورق. إنّها موسيقى تتشكّل فقط في المسافة الضّيقّة بين النّوم واليقظة، وتتبخّر فور أن نفتّش عنها بعين الوعي.
ولهذا يبدو كلّ موسيقيّ حقيقيّ كائنًا مصابًا بنوع لطيف من الجنون:
ليس الجنون الّذي يضلّ الطّريق، بل الّذي يصنع طريقاً لا يليق به السّير إلّا وهو يحلم.
فالجنون هنا ليس فقداناً للعقل، بل تحرّراً منه، كي نسمح للرّوح أن تكتب ما لا يقوى المنطق على احتماله.
الموسيقى ليست ترفاً.
إنّها حجّة الإنسان على القسوة، وطريقته في الرّدّ على هذا العالم حين لا يجد ما يقوله.
كلّ نوتة تُعزَف هي مقاومة، وكلّ لحن يُسمَع هو انتصار صغير على العدم، وانحياز واضح للحياة مهما كانت هشة.
وبالنّتيجة، لا أحد يكتب موسيقاه كما يريد، بل كما تسمح له الفوضى الجميلة الّتي تُعيد إليه دهشة الطّفل حين كان يطارد صوت الرّيح بين قصب الطّريق. تلك اللّحظة الأولى لا تتكرّر، لكنّها تبقى هي المرجع الوحيد الّذي نقيس به كلّ ما يأتي بعدها، كأنّ الطّفولة كانت التدريب الأول على الإصغاء لما لا يُسمع.
جان كبك






































