تطويقُ الهضبة… حينَ تمدُّ مصرُ ظلَّها على القرن الإفريقي
كتب أشرف كمال :
– القارّة التي تشتعلُ تحتَ الرماد :
ليست إفريقيا كما تراها الأقمار الصناعية؛ إنها ليست مجرد قارةٍ تسبح في ضوء الشمس، بل كتلةُ صراعٍ مضطرمةٍ في أعماقها، تتشابك فيها أنابيب النفط مع جداول المياه، وطرق التجارة مع خرائط الأطماع.
هناك، في الجنوب الذي يروي الشمال، تتحدّد مصائر الأمم. فالنيل الذي كان يهب الحياة، صار اليوم ميداناً للصراع بين من يملكه بالضفّة، ومن يتحكّم في منبعه بالسدّ.
منذ سنواتٍ، أدركت القاهرة أن المعركة الحقيقية لا تُخاض في ميادين الحدود، بل في الهضبة التي تحتجز الماء، وفي البحار التي تفتح أو تُغلق الأفق أمام المستقبل.
– الهضبة التي عطّشت النهر :
سدّ النهضة الإثيوبي لم يكن مشروعاً مائياً فحسب، بل إعلاناً صريحاً عن رغبةٍ في إعادة كتابة الجغرافيا المائية للمنطقة.
فكل مترٍ مكعّبٍ يُحتجز خلف جدران السدّ، يعني عطشاً يقترب من وادي النيل.
تُدرك القاهرة أن مياهها التي تهب الحياة لأكثر من مئة مليون إنسان، تتناقص بفعل قرارات تُتَّخذ خارج إرادتها، وأن السودان بدوره يُهدَّد في أرضه وزراعته واستقراره.
في هذا المشهد، بدت إثيوبيا وكأنها تمسك برقبة النيل، بينما تمدّ إسرائيل بخيوطها الفنية والتقنية لتدعم السدّ، وتتسلّل الإمارات بتمويلٍ خفيّ، فيما تلوّح تركيا بأطماعٍ اقتصاديةٍ وعسكريةٍ على السواحل المقابلة.
لكنّ مصر، التي تعلّمت من التاريخ أنّ الماء لا يُحمى بالدعاء وحده، بدأت تمتدّ في صمتٍ نحو الجنوب.
– ارتريا… الحليف الذي عاد من الغياب:
حين أرسلت القاهرة رسائلها إلى أسمرا، لم تكن تسأل الودّ، بل تستعيد الإرث.
فإريتريا كانت، ذات زمنٍ، البوّابة التي أغلقها الآخرون في وجه مصر، حتى تحوّلت إلى ملعبٍ للقوى الغريبة.
ثم جاء الوقت لتعود إلى الصفّ العربي – المصري.
بطاقة ذكاءٍ استراتيجيّ، استطاعت القاهرة أن تُفكّك التحالف الإثيوبي – الإريتري، وتستعيد عبره منفذها السياسي والعسكري نحو البحر الأحمر.
القواعد الإسرائيلية أُطفئت أنوارها، والمستشارون المصريون حلّوا محلّهم، والسفن المصرية رست على الموانئ الإريترية كحراسٍ من زمنٍ قديمٍ عاد.
– الصومال… قاعدة في قلب المحيط :
لم يتوقف ظلّ مصر عند إريتريا؛ بل امتدّ إلى الصومال، تلك الأرض التي لطالما عاشت بين الفوضى والميناء، لتصبح اليوم ركيزةً جديدة في الاستراتيجية المصرية.
أنشأت القاهرة قاعدةً عسكريةً على الساحل الصومالي، لا لتغزو، بل لتُراقب، ولتُطوّق الهضبة الإثيوبية من الشرق كما تطوّقها من الشمال والغرب.
ومن هناك، من مياه المحيط الهندي، أصبحت مصر تُمسك بطرف الخيط الجغرافي الذي طالما حاولت أديس أبابا أن تحتكره.
هذه القاعدة ليست استعراض قوّة، بل عينٌ بحريةٌ مصريةٌ تراقب ما يجري خلف السدّ، وتُرسل رسائلها الهادئة:
“من يعبث بالماء، يُحاصَر بالماء.”
– السودان… الجار الذي يقف على حافة النهر :
جنوب الوادي جريح.
الحرب في السودان ليست مجرد نزاعٍ داخليٍّ، بل انعكاسٌ لتضارب مصالح القوى حول النيل.
الإمارات تدعم فصيلاً طامحاً في السيطرة، وتركيا تلوّح بأذرعها، بينما القاهرة تنحاز للثابت الأوحد: وحدة السودان.
تعرف مصر أن انقسام الخرطوم يعني ضياع النيل من خاصرتها، وأنّ من يربح السودان يربح مفتاح الجنوب.
لذلك، امتدّت السياسة المصرية نحو هناك، بذكاءٍ دبلوماسيٍّ لا يُرى، تُعيد ترتيب البيت الإفريقيّ، وتجمع ما تفرّق في خضمّ العواصف.
– الطامعون في الذهب والمنافذ :
الذهب… هذا المعدن الصامت الذي أشعل القارات.
في باطن الأرض الإفريقية تتراءى خيراتٌ لا تُقدّر بثمن، من اليورانيوم إلى النفط، ومن الماس إلى النحاس.
لهذا تتكاثر القواعد والمشروعات والمستثمرون كالفطر بعد المطر، وتصبح القارة مسرحاً لسباقٍ محمومٍ بين من يمدّ يده بالمال ومن يمدّها بالسلاح.
الإمارات تمتلك الموانئ، وتركيا تنسج التحالفات، وإسرائيل تبحث عن موطئ قدمٍ على شواطئ البحر الأحمر لتُحصّن تجارتها وعيونها العسكرية.
غير أنّ مصر، وهي ترى كلّ ذلك، لا تردّ بالضجيج، بل بالفعل الهادئ المدروس، تُعيد ترتيب رقعة الشطرنج وتُمسك بخيوطها واحدةً تلو الأخرى.
– المخابرات المصرية… حين تتحدث الصمت :
في عالمٍ يُدار بالصوت العالي، اختارت المخابرات المصرية أن تتحدث بالصمت.
كانت تعرف أنّ الزمن لا يرحم من يتأخر، وأنّ إثيوبيا التي تبني السدّ ليست وحدها، بل خلفها تحالفٌ من المال والسلاح والمعلومات.
من هناك بدأت القاهرة تبني شبكتها الهادئة من التحالفات، تحذّر حلفاءها، وتُعيد ترتيب المشهد من أسمرا إلى مقديشو.
وفي لحظةٍ فاصلةٍ، انقلبت الطاولة: تهاوى الحلف الإثيوبي – الإريتري، وتحوّل البحر الأحمر إلى بحيرةٍ مصريةٍ محميةٍ بالوعي لا بالحديد فقط.
– البحر الأحمر… الممرّ الذي لا ينام :
من السويس إلى باب المندب، امتدت خطوط الضوء المصرية على الماء كحبالٍ من نارٍ تحرس الحلم.
راداراتٌ تغطّي السماء، وسفنٌ تجوب الممرّات، وقواعدٌ منسّقة في جيبوتي وإريتريا والصومال، ترسم قوساً دفاعياً يُحاصر التهديدات قبل أن تقترب.
القاهرة تعلم أن البحر الأحمر ليس مجرّد ممرٍّ تجاري، بل شريان الحياة لنيلها العظيم.
وأنّ من يتحكّم بالممرّ، يتحكّم بالمصير.
– ما بين الماء والظلّ :
إنّ المعركة ليست فقط على الموارد، بل على الوجود ذاته.
فالماء الذي ينساب من الهضبة إلى الدلتا، هو الشريان الذي إذا انقطع، انقطعت الحضارة.
سدّ النهضة بات رمزاً لصراعٍ أكبر من سدّ، وأخطر من بحيرة؛ هو اختبارٌ للإرادة، ولقدرة مصر على حماية حقّها التاريخيّ في الحياة.
وبينما تنشغل العواصم بحسابات الربح والخسارة، تُدير القاهرة المشهد كما لو كانت روايةً كتبتها الأنهار، لا تُروى إلا لمن يقرأ بالماء لا بالحبر.
في ختام المشهد الإفريقي المتشابك، تبدو مصر وكأنها تعيد رسم خريطة التوازنات في القارة السمراء بوعي استراتيجي عميق. فالقاهرة لم تعد تكتفي بمراقبة الأحداث من بعيد، بل صارت لاعبًا رئيسيًا يحرك المشهد العسكري والدبلوماسي على السواء، واضعةً أمنها القومي فوق كل اعتبار.
إن إنشاء القاعدة العسكرية المصرية في الصومال، وتوسيع نطاق التعاون مع إريتريا وجيبوتي، ليس مجرد حراك عسكري، بل خطوة مدروسة لحصار النفوذ الإثيوبي والإسرائيلي والتركي والإماراتي، الذين يتنافسون على ثروات الذهب والمعادن ومنافذ البحر الأحمر.
وبينما يواصل سد النهضة تهديده بتقليص حصة مصر والسودان من المياه، تتعامل الدولة المصرية مع الموقف بصلابةٍ وذكاءٍ، واضعةً نصب عينيها حماية شريان الحياة – نهر النيل – من أي عبثٍ أو ابتزازٍ سياسي.
إن ما يجري اليوم في إفريقيا ليس مجرد صراع نفوذ، بل معركة وجود، ومصر تدرك أن تأمين الجنوب هو الحصن الأخير لبقاء النيل حراً، وبقاء مصر دولةً قائدةً في قارتها وأمتها.






































