طقسٌ لابتكارِ الرَّحيلِ
توطئة:
ثمّةَ لحظاتٌ لا تُقال، بل تُقام كصلاةٍ في معبدِ الغياب. رائحةُ قلبٍ لم يُكمِل وداعَه تسري في ذاكرةِ العطر، كأنّها نجاةٌ مؤجَّلة. هناك، في ذلك الحيّز الشّفيف، تتهيّأ اللّغة لابتداعِ رحيلٍ يشبهها؛ تُخبّئ في البياضِ اسمَها، فليس الختامُ نهايةً، بل رعشةٌ تتوارى في الغيم، تُغازل ملامحَ ولادتها الأولى، لتُولَدَ في الحنين…
طفلةً من نور.
ـــــــ
في ذلك المساء،
رأيتُني هناك،
في فجرٍ بلا ذاكرة.
تركتُ على الزّجاجِ ظلَّ قلبي،
يتردّد بين شهيقٍ وذكرى،
وصوتٌ بعيدٌ يقول لي:
كنتِ، منذ أنِ ابتكر الحلمُ أنثاهُ،
فلا تسألي عن الميلاد،
ولا عن الماءِ الّذي صبَّكِ نبعًا أرجوانيَّ الحنين.
أنطِقُ السُّكوتَ،
فيرتجف الهواءُ المالح،
ويعرفني الغيابُ أكثر ممّا أعرفُ نفسي.
لم تكن المدينة سوى نُدبةٍ تجرّ خطواتِها
على حائطٍ من غبار،
والأماكنُ الّتي حفظت ضحكتي
أغلقت أبوابها على الصّدى.
استيقظتُ على صوتٍ يشبهني
ولا يعرف اسمي،
كأنّه الضّوءُ يتعثّرُ بي
ويتعلّمُ السّقوط للمرّةِ الأولى.
كنتُ أمشي بخفّةِ
من لم يعُدْ يعنيه الوصول،
وأُصغي لنفسي تهاجرُ بين أضلعي
بحثًا عن حنجرةٍ للهواءِ المارقِ سهوًا
من رئةٍ مهجورةٍ.
العالمُ أعزلُ،
مثل جفنٍ على وشكِ البكاءِ،
واحمرارُ الخريفِ يُصفّقُ للرّيحِ داخل رأسي.
ليالٍ من النّعاسِ السّرّيّ
تُغري القلب أن يُخطئ عمدًا،
ويتركَ على العتباتِ وردًا من بلّورٍ
يجرحُ الهواءَ.
لا أدري كيف كنتُ أُمسكُ النّهار من كتفِه كي لا يهرب،
وأُربّتُ على كتفِ الغيمِ كي لا يبكي وحيدًا!
كلُّ شيءٍ من حولي يشيب،
حتّى المعنى…
حتّى الوداع.
وتحت جلدي، تغفو عرّافةٌ من نسيجِ الماء،
تكتبُ لي ملاحظاتٍ سرّيةً:
لا تنسي أن تُغلقي الفجرَ خلفكِ،
فالذّكرياتُ لا تعرفُ النّومَ إلّا على نافذةٍ مفتوحة.
كان عليَّ أن أتهجّى رحيلي
من غيمةٍ عبرت مصادفةً
إلى لغةٍ ليست لي،
وأميلَ للشّمالِ المكسورِ في جهّةِ القلب،
ولزوايا أُخرى في آخرِ المنتصف،
لم تتركْ لأضلاعِه سوى
ثُلاثيّةِ الأحزانِ
وارتباكِ اللّغةِ.
ليس لي في العالمِ مرآةٌ غير هذا الغبارِ
الّذي يصعدُ بي،
يجهلُ كيف يُعلّمُ الضّوءَ غزل اسمي!
لم أقفْ على بابِ أحصدٍ،
جعلتُ من كلِّ الجهّاتِ قفلًا،
ومن مفاتيحي كلِّها تنهيدةً ضائعةً
تبحثُ عنكَ وحدكَ.
أنا، الّتي لا تملكُ غير هشاشتها،
أرتديها سرًّا، كفساتينِ طفولتي،
فراشاتٍ راقصةً للضّوءِ
تهربُ من النّسيان.
أسدلُ غيمتي عليكَ،
كما تفعلُ امرأةُ المسافاتِ البعيدةِ،
لترمِّمَ صمتًا قديمًا،
تُنقذَ القصيدةَ من بياضِها،
وتُربّي على هامشِ الحنينِ
نعناعَ قُبلتِها
مثلَ حدائق من إسفنجٍ.
في الغرفةِ الّتي نسيها الضّوءُ،
كنتُ هناك،
على شطآنٍ مرجانيّةٍ،
أُطفئُ أنفاسي بالملقط،
وأزرعُ الفراغَ بندبةٍ
تشبهُ أطيافَ الغياب.
يتنفّسُ الشّعرَ بصمتِها،
امرأةٌ تهمسُ للماءِ الهاربِ من مراياها:
ذاكرتي لا تُطعِمُ العطشَ،
والأكوابُ صدئةٌ.
تُرتّلُ ظلَّها بعطرٍ خفيفٍ،
وهي تُعيدُ ترتيبَ النّدى،
تُخبّئه في جوهرةٍ بلا اسمٍ.
هل تتذكّر؟
على أطرافِ اللقاءِ الأخير،
انكسرنا مرّتَين،
كأنَّكَ آخر الكواكبِ قبل انطفاءِ المجرّة.
كنتُ شرفةً معلّقةً في الدّورِ الثّالث عشر من حلمي،
لم يكن في صدري سوى يديكَ،
ومقعدٌ فارغٌ في محطةِ النّزفِ الأخير
يشبهُ قلبي كثيرًا.
خلفَ الرّمشِ، كانت هناك نملةٌ تمشي على اسمِها
دون أن تُدرِكَ سقوطَ الحرفِ الأخيرِ من زند قلبينا.
لا أحدَ يُعيدُ الحروف إلّا الغيابُ،
ولا أحد يُتقنُ النّسيان مثل الرّفاة.
قلتُ للأشياءِ:
انثروا عطري بين ضلوعِه،
واحفظوه في دفاترِ المطر.
لكنّهم، كعادتِهم، أفرغوا الضّوءَ يتيمًا من نبضي،
تاركينَ المساحةَ للغيابِ
الّذي يعرفني أكثرَ ممّا أعرفُ نفسي.
أنا الّتي كتبتُكَ في دفترِ الطّين،
وقطفتُ من جبينِك زرَّ العتمةِ،
وشّحتُ به أصابعي حين فقدتُ خاتمَ الانتظار.
قلبي شجرةُ كينا، لا تُثمِرُ إلّا الظّلال.
حطّابو الوقتِ مرّوا بها —
نسيَها الجميع،
إلّا الريحَ!
طرقاتُنا ضجيجُ قُبلةٍ ضائعةٍ
تنامُ في زوايا الذّاكرة،
ولا تصحو إلّا حين تُنسى تمامًا.
تُطرّزُ طقوس الاختباءِ
على ثيابِ القصيدةِ،
تبني لكلِّ شعورٍ مقبرةً،
ولكلِّ ابتسامةٍ نعشًا من بلّورٍ.
هناك، في آخرِ الممرِّ الّذي لا يُقاس،
امرأةٌ أُخرى تشبهني،
تشبهني تمامًا،
تعرفُ كيف تُصلحُ فوضى الغيابِ
في عينيها،
تُغلقُ نوافذَ زرقتها،
وتُعلّقُ على كتفِ المساءِ
تعويذةً ضدَّ النّسيان،
ثمّ تمضي،
كأنّ كلَّ خطوةٍ وعدٌ مؤجَّل.
وكلّما سألتُ الرّوح عن صورتِها،
تدلُّني خلسةً على دمعةٍ قديمةٍ
في ممرِّ الضّوء،
وتقول لي:
هنا بدأتِ الحكاية…
لكنّه يا حبيبي…
ذلكَ النَّزقُ الحنونُ التَّعسُ —
مثل قلبي، كعادته —
أ يختارُ طقسًا
لابتكارِ الرَّحيل،
وآخر لحزنها الرّمادي،
عطرٌ
أضاعَ حنينَهُ،
في دروبِ امرأةٍ
لم يسكنْها نداءٌ…
غيرُ اسمكَ.
منى محمد صالح
برمنجهام
منى محمّد صالح






































