العالَم حين يخلع قناعه الأخير
1
في بداية المساء،
يبدأ الغبار في كتابة سيرة الهواء.
حرّاس الأزمنة يطفئون مصابيحهم كي يروا أوضح،
والمدن تتعرّى من لهجتها مثل عاهرة استقالت من الرّغبة.
القطارات لا تمرّ، لكنّها تواصل التّفكير في الوصول،
والشّوارع تعلّق لافتات تقول:
ادخل، لكن لا تعد كما أنت.
2
أعرف قلبا كان يغنّي للعابرين،
فأكلته الأحذية المعلّقة على أسلاك الكهرباء.
كانت الأرصفة تضحك حين يسقط عاشق،
تتدحرج قبلته كعلبة دواء منتهية الصّلاحيّة،
والسّماء تلوّح بمنديل مصنوع من رماد الأطفال.
كلّ شيء هنا ينبت صوتا،
حتّى العتب الّذي يئنّ تحت خطوات الأمّهات المنسيّات.
3
أحلم بمصنع ينتج أوهاما قابلة للشّرب،
يملأ العروق بزئبق الطّفولة،
ويعيد ترتيب الجثث على شكل قصائد صالحة للتّأمّل.
الجنون صار هواية جماعيّة،
نرتديه في حفلات الشّكر لأنفاسنا الأخيرة،
ونوزّع الابتسامات كمن يزرع ألغاما في أحواض الزّهور.
4
ثمّة نملة تصعد جدار الوعي،
تحمل على ظهرها ذاكرة قرن كامل،
تبحث عن ظلّ لم يشتعل بعد.
أنا أراقبها وأشعر أنّ الأرض تتثاءب تحتنا،
أنّ القمر لم يعد يضيء، بل يبتلع نفسه ببطء كحبّة منوّم قديم.
5
كلّ حرب تبدأ بصفّارة انتظار،
ثمّ تفتّش في العيون عن مطر يصلح لإغراق الخوف.
الدّم هنا لا يسيل، بل يتكلّم،
يحكي عن حرفيين صنعوا للغياب أثاثا من صراخ محنّط.
أمّا الموت،
فقد صار موظّفا في دائرة البريد،
يوصل الرّسائل الممزّقة لأصحابها
ويعتذر بابتسامة مصنوعة من شمع بارد.
6
الحرب لم تعد تُطلق من البنادق،
بل من نشرات الأخبار،
من ابتسامة المذيع وهو يعلن مقتل مدينة بأكملها.
الناس يتبادلون التّعازي على شكل رموز صفراء،
ويغسلون ضمائرهم بماء معطّر من صناعة الأمم المتحضرة.
هناك أطفال ينامون تحت الشّاشات،
يغطّيهم البثّ المباشر ككفن فاخر،
ولا أحد يسمع شخير الجثث في خلفيّة الصّورة.
العالم يوزّع بيانات الرّحمة مثل منشورات انتخابيّة،
ويحصي ضحاياه بعدد الإعجابات.
حتّى الّدم صار يعتذر قبل أن يسيل،
خجلا من تلوّث المشهد،
ومن نبل الخطاب الّذي يبرّر الذّبح باسم الإنسانيّة.
7
في النّهاية،
تتعب اللّغة من تفسير نفسها،
تترك الكلمات على قارعة المعنى
وتنصرف لتغسل فمها من الغبار.
الوقت يخلع معطفه
ويقول: لم أعد أحتمل الدّور الرّئيسي في هذه المسرحيًة.
كلّ شيء يضحك بطريقة مائلة،
حتّى الفراغ
يرقص على ساق واحدة ويهتف:
يا للروعة، لقد أصبحنا حقيقيين أخيرا!
محب خيري الجمال
Moheb Khairy Elgmmal






































